الفيزياء والفلك > فيزياء

مالذي يجعل معدن الزئبق سائلاً في درجات الحرارة العادية

تمكن ميكانيكا الكم دون أخذ تأثيرات النظرية النسبية الخاصة بعين الاعتبار من تفسير العديد من الخواص الكيميائية للعناصر كتفسير وحساب الروابط الكيميائية و التنبؤ بالخصائص الترموديناميكية للجزيئات و لمعدلات التفاعلات الكيميائية و فهم الرابط الجزيئي الذي يربط البروتينات مع بعضها. كل هذه المسائل خضعت للحسابات من دون القلق بسبب تأثيرات النسبية .باستثناء مسألة تواجد الزئبق في الحالة السائلة في درجة حرارة الغرفة.

الزئبق - المعدن الوحيد الذي يتمتع بهذه الخاصة - قد سحر وفتن الانسان لعديد من القرون. مادة متألقة تجري بوجود جاذبية مدروسة، تحل المعادن الأخرى و يقاوم كل المحاولات لالتقاطه.

له استخدامه عند معايرته في ميزان الحرارة و له دور قاتل عندما تتراكم في النسج الحية.لكن الظاهرة الوحيدة المميزة للزئبق و الواضحة للجميع هي طبيعته السائلة.إذا لماذا هو سائل ؟

لقد تمت معالجة هذا السؤال بشكل جيد في ورقة بحث نشرت في مجلة (الكيمياء التطبيقية) الألمانية لكن في البداية علينا أن نعود إلى الأساسيات.الزئبق هو معدن، هذا يعني أنه يحتل منتصف جدول العناصر الدوري مثله مثل بقية المعادن كالذهب و التوتياء و الكادميوم. في الواقع هو ينتمي إلى نفس مجموعة الزنك والكادميوم ،وحتى الان لم يكن مختلفا عنهم إلا في أن الزنك والكادميوم ليسا سائلين في درجة حرارة الغرفة و هما يتبلوران بشكل مختلف عن الزئبق. و يتواجد الزئبق بجانب الذهب في جدول العناصر الدوري لكن مع ذلك تختلف خواصهما كليا.

تتألف المدارات الرئيسية في الذرة من مدارات ثانوية يرمز لأنواعها s،p،d،f،… لكل منها شكل معين وتتوزع عليها الألكترونات بترتيب محدد بحسب طاقة كل مدار ثانوي . ويوجد على كل مدار اوضاع معينة تسمح بوجود الالكترونات ندعوها "محطّ" ويمثل عدد المحطات في كل مدار ثانوي عدد الطرق التي يتوضع فيها المدار الثانوي في الفراغ. وينتج عن اختلاف عدد الالكترونات في كل مدار ثانوي وفي كل محط اختلاف في الخواص الفيزيائية والكيميائية للعناصر.

في حالة الزئبق تملأ المحطات حتى المدار الثانوي 6s (المدار الفرعي الأول من المدار الرئيسي السادس) وبامتلاء المدار الفرعي يصبح العنصر اقل قابلية للتخلي عن احد الكتروناته لتشكيل رابطة مع الذرات الأخرى . اما دور النسبية الخاصة فيتعلق بسرعة دوران الالكترون على مداره فبزيادة السرعة تزداد كتلة الألكترون وبحسب نموذج نيلز بور للذرة ترتبط السرعة بالعدد الذري (عدد البروتونات في نواة العنصر ويساوي عدد الكتروناته مالم تكن الذرة شاردة أي فاقدة لألكترون أو اكثر) ولذلك فالزيادة في الكتلة بتأثير النسبية مهملة في العناصر الخفيفة كالهيدروجين (عدده الذري 1) لكن في حالة الزئبق (عدده الذري 80) تصبح هذه الزيادة ملحوظة حيث تصبح سرعة الالكترون تقارب 58% من سرعة الضوء مما يوافق زيادة 1,23 مرة كتلة الألكترون في حالة السكون. وبما أن نصف قطر دوران الالكترون يتناقص بازدياد الكتلة فسوف يصبح قطر مدار الالكترونين في 6s أقل وأقرب للنواة وبالتالي أكثر ترابطا معها ولا تستطيع بقية المدارات الفرعية السابقة حجب تأثير النواة الموجبة على الألكترونين السالبين.مما يجعل الزئبق غير مستعد لمشاركة الكتروناته الأبعد و تشكيل روابط قوية مع ذرات الزئبق الأخرى.

تنتج الرابطة بين ذرات الزئبق في التجمعات الصغيرة من روابط فاندر فالس الضعيفة (تظهر هذه الروابط في السوائل عادة) و التي تنشأ من التغير الطفيف في الشحنات بين الذرات المتجاورة عوضا عن تشارك الالكترونات. وللتأكد من هذه الفرضيات اجرى الفريق حساباته لإيجاد السعة الحرارية للزئبق . و السعة الحرارية للمادة هي خاصة تتغير بشكل كبير خلال عند انتقالها من طور إلى طول اخر كالانتقال من الحالة الصلبة إلى السائلة. و السؤال هنا بسيط: هل من الممكن التنبؤ بدرجة حرارة انصهار الزئبق باستخدام الحسابات والذي يعبر عنه بتغير مفاجئ في السعة الحرارية. في ورقة بحث نشرت في مجلة (الكيمياء التطبيقية) حصل عدة كيميائيين من نيوزيلندا، ألمانيا و فرنسا على نتيجة كانت الأكثر إقناعا إلى حد الأن. لقد قاموا باستخلاص الحسابات وذلك باستبعاد النسبية أولا و من ثم تضمينها، والنتيجة كانت لا شك فيها. عندما اخذت النسبية بالحسبان انخفضت درجة انصهار الزئبق من 355 كلفن (77 درجة مئوية) إلى 250 كلفن (-23 درجة مئوية)، وتلك النتيجة كانت موافقة للتجربة و مترافقة مع تغير مفاجئ في السعة الحرارية .

لم تكن الطبيعة السائلة للزئبق الشيء الوحيد الذي فسرته حسابات النسبية الخاصة بل فسرت أيضا لون الذهب الأصفر ولماذا لون الفضة أبيض. وذلك لأن الانقسام في المدارات و الطاقة المنخفضة في المدار 6s يؤدي إلى امتصاص الضوء الأزرق في الذهب و يعكس الضوء الأصفر و الأحمر. و بما أن السوية 6s أعلى في الفضة، الطاقة المطلوبة لإثارة الكترون تتوافق مع المنطقة فوق البنفسجية من الطيف بدلا من المنطقة المرئية، وبالتالي تعكس الفضة كل الألوان في الطيف المرئي.

مع أن هذا التفسير سيبدو للبعض عادياً ولكنه بصراحة دليل على قوة العلم وسلامة المنهج العلمي فأي نظرية مهما كانت معروفة وقادرة على تفسير بعض النتائج يجب أن لا تتعارض مع أهم مرجع لدى العلماء وهو النتائج التجريبية. هذا هو سحر العلم.

المصدر: هنا

حقوق الصورة: Wikipedia Commons