كتاب > روايات ومقالات

مراجعةُ روايةِ (1984): (تنبّأ بالمستقبل، أم إنّه يُحذِّرُنا فقط؟)

"لم يعُد هناكَ مكانٌ آمنٌ سوى بضعةِ سنتيمتراتٍ مكعّبةٍ داخلَ الجُمجمة"

يحاولُ وينستون الصّراخَ داخلَ أعماقِهِ رافضًا الحقيقةَ التي يُزوِّرُهَا كلّ يومٍ مُكرهًا.. يبتئسُ مِن وَضْعٍ قد ملّه، وما من وسيلةٍ أمامَهُ ليُغيّره.. يجدُ نفسَهُ في صراعٍ بين حقيقةٍ تتغلغَلُ في أحشائه، وتصرُخُ من داخِلِه؛ لتُفصِحَ عن واقعٍ مُزيّفٍ لا يزدادُ كلّ يومٍ إلّا سوءًا وكذبًا مع كلّ تلكَ التّقاريرُ التي تُقدّمُ يوميًّا، والتي تثبِتُ عكسَ ذلك.. ولكنّ قليلًا من الوعي الدّاخليّ، وكثيرًا من الجُرأةِ=مَكَّناهُ من أن يُعبّرَ لنفسِهِ عن أفكارٍ يرتَكِبُ من خلالِها أعظمَ الجرائمِ في حقّه، وحقّ الحزبِ الذي يتعيّنُ عليهِ تمجيدَه حدَّ العبادَة: (جريمةُ الفِكر)!

يحاولُ الكتابةَ للمستقبلِ وللأجيالِ التي ربّما قد تجدُ دليلًا يُثبتُ لها أنّها ما زالت على قَيدِ التّفكير.. ولكنّ العيون تراقبه؛ كحالِ كُثُر. شاشاتُ الرَّصدِ تسمعُه وتراه، وتلاحظُ كلَّ تحرّكاتِه؛ لتُمسِكَ أيّ دليلٍ على أيّ تحوّلٍ طفيفٍ في تعابيرَ وجهِهِ قد يُخفِي خلفه الكثير.

تدخلُ البلادُ في حربٍ، وتخرُجُ من أُخرى، ولكن لم يتغيَّر شيء؛ ففي هذه البلادِ يُحرَّمُ على ساكنيها حتّى أسمى المشاعرِ تجاه أقربِ النّاس؛ فيَكفيكَ حبُّ القائدِ ولا أحدَ سواه، كما أنّ ضمانَ بقاء الجوِّ مشحونًا بالتّوترِ والخوفِ حتّى من الأفكار=تكسِرُ أيّ محاولةٍ لالتقاءِ شخصَينِ في فكرةٍ تُودِي بهما إلى عملٍ ضدّ الحزب.

ومع كلّ الضغوطاتِ المُطبِقَةِ على وينستون، فإنّه يُقدِم بتصميمٍ كبيرٍ على كسرِ القواعدِ الصّارمةِ للحزب، وهو يعلمُ المصيرَ الذي ينتظرُهُ، ولكنّ القوّةَ الكامنةَ في داخلِهِ تدفَعُهُ لِمَا هو أكبرُ من ذلك؛ ليبدأ بسلسلةٍ من الانتهاكاتِ ضمن أجواءِ الحزب، يعلَمُ مُسبقًا أنّ القتلَ سيكونُ العقابَ المُشتَهى الذي لن يتمكّنَ من الوصولِ إليه.. ولكنّ بقاءَهُ على قيدِ الإنسانيّةِ أمرٌ يستحقُّ التّضحيةَ من أجلِه، حتّى ولو لَم يؤدِّ ذلكَ إلى نتيجة؛ فصمودُهُ أمامَهم كافٍ لإلحاقِ الهزيمةِ بِهم.

كتبَ جورج أورويل كتابَه هذا كما تُخبِرَنا رسالتُه لـ(نويل ويلميت)، التي ينذِرُ فيها بأنّ دُوَلًا شموليّةً بوليسيّةً ستنشأ؛ إذ سيصبِحَ فيها اثنان زائد اثنين هو خمسة!

يقولُ في رسالتِهِ المؤرّخَةِ بـ(18 أيار/مايو 1944) إنّ هتلر سيختفي قريبًا، ولكنّ الدولَ التي ستنتصرُ عليه استبدَلَت به أيقوناتٍ أخرى، هي ستالين في الاتّحادِ السوفيتيّ، وفاحِشِي الغِنَى في الولاياتِ المُتّحدة.. شخصياتٌ على غرارِ (دي غول) على حدّ وصفِه. فيقولُ إنّ الأممَ تتّجِه لتشكيلِ حكوماتٍ غيرِ ديمقراطيّةٍ، تتّبِعُ مبدأ الغائيّةِ، واقتصاداتُها تقومُ على أنّها فعّالةٌ، بصرفِ النّظرِ عن عدم إنسانيّتِها.

ثُمّ يلومُ أورويل النُّخبةَ المُثقّفةَ في إنجلترا، فيقول إنّهم قد رفضوا هتلر، ولكنّهم قبِلوا ستالين في المقابل! فكانوا مُستعدّينَ عندها لقَبول الدّيكتاتوريّةِ والفاشيّةِ؛ طالما هي على طرفِنَا "نحن"!

يُلحِقُ أورويل كتابَه بفِقْرَةٍ يتكلّم فيها على الـ(نيو سبيك)، أو اللّغةِ الجديدة، وهي اللّغةُ التي طوّرَها الحزبُ، والتي يمكِنُ تلخيصُ سياستِهِ فيها بقولِه: "كما للتّفكيرِ أن يُفسِدَ اللّغة، فللّغَةِ أن تُفسِدَ التّفكيرَ".

(جورج أورويل) هو الاسمُ المستعارُ للكاتِبِ البريطانيّ (إريك آرثر بلير)، الذي أنهى كتابةَ هذهِ الرّوايةِ عام 1948، فعَكَسَ تاريخَ كتابتِها ليُعَنوِنَ روايتَه التي نفَخَ في صفَحَاتِها أبواقَ النّضالِ ضدَّ الاستبداد، وأثبتَ من خلالِها أنّه مُفكّرٌ سياسيٌّ حاذِقٌ، وليسَ فقط أديبًا فذًّا؛ فهو لم يقِف عندَ تحليلِ الفِكرِ الاستبداديّ وطريقةِ عملِه، بل تجاوَزَ ذلكَ ليُقدِّمَ تنبُّؤًا عمّا سيحدُثُ في المستَقبَلِ بنظرَةٍ مُتكَامِلَة.

الكِتاب: 1984

تأليف: جورج أورويل.

ترجمة: أنور الشّامي.

دارُ النّشر: المركزُ الثّقافيُّ العربيُّ-الدّارُ البيضاءُ-المغرِب.

نوعيّةُ الكِتاب: 351 صفحَة-قَطْعٌ متوسِّط.