الموسيقا > عظماء الموسيقا

سيرجي رخمانينوف..... عملاق الموسيقى الروسية.

"يوجد مكان وحيد مقرب بالنسبة لي، وهذا المكان هو موطني... روسيا"

هذا ما قاله راخمانينوف في مقابلة لصحيفة The Musical Times عام 1930

لقد كان راخمانينوف مدرسة موسيقية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فبعد رحيل فرانز ليست ما كان أحد ليتوقع مجيء إنسان قادر على تأليف قطع أعقد من الذي وضعها العازف و المؤلف الهنغاري إلى أن جاء العملاق الروسي ووضع قطع بيانو يصعب عزفها حتى على أكثر العازفين احترافاً، وربما ساعده في ذلك حجمه يديه الكبير فيده الواحدة كانت تستطيع عزف نوطتين تبعدان 13 بعد عن بعضهما! والقطع لم تكن مجردة من المشاعر بل امتازت بلحنها الحزين وطابعها السوداوي حيث أنه كثيراً ما اعتمد على سلالم المينور في معظم مؤلفاته، فالمؤلف الروسي الأصل إيغور سترافينسكي قد وصفه بأنه "6 أقدام و2 بوصة من الكآبة الروسية"، و فور استماعك لأي من مؤلفاته سوف تدرك ما قصده سترافينسكي، كما يعتبر راخمانينوف آخر ممثلي العصر الرومنسي في المدرسة الروسية.

حياته:

ينحدر سيرجي راخمانينوف من سلالة أرستقراطيين حيث كان يملك الشخصية الرفيعة ولكن دون المال الذي تمتعت به هذه الطبقة، عائلته روسية تعود لأصول مولدوفية وكانت بخدمة قياصرة روس منذ القرن السادس عشرو كان لها ميول موسيقية وعسكرية قوية، والده "فاسيلي أركاديَفيتش" كان عازف بيانو هاوٍ وضابط تزوج من "ليوبوف بيتروفنا بوتاكوفا" وأنجبا ثلاثة صبية وثلاث بنات.

ولد سيرجي في 1 نيسان عام 1873، و عندما كان بعمر الرابعة بدأت والدته بتعليمه العزف على البيانو، لكن المؤثر الحقيقي كان جده الذي استقدم المدرّسة "آنا أورناتسكايا" من سان بطرسبورغ لتعليم سيرجي عام 1882 وبقيت حوالي السنتين أو الثلاث سنوات.

لاحقاً اضطر فاسيلي لبيع جميع عقاراته بإستثناء أحدها بسبب مشاكله المالية وقد وصف بأنه "مبذّر، مقامر بشكل مَرَضي، كاذب وملاحق للنساء"، فانتقلت العائلة للسكن في شقة في سان بطرسبورغ.

قامت آنا بترتيب دخول سيرجي للمعهد الموسيقي في سان بطرسبورغ الذي انتسب له عام 1883 عندما كان عمره عشر سنوات، في ذلك العام توفيت أخته متأثرة بالخنّاق وغادر والده متوجهاً إلى موسكو بعد موافقة عائلته على تركه لهم، حينها تدخلت جدته للعناية به وبإخوته،و كانت تأخذ سيرجي بشكل دائم لحضور المراسم الروسية الأورثودوكسية في الكنائس، حيث كان تأثره بتلك الطقوس جلياً في العديد من مؤلفاته لاحقاً.

عانى سيرجي من ظروف صعبة سببت تراجع مستواه الدراسي العام والموسيقي حتى أنه كاد أن يرسب في المعهد الموسيقي، لكنه انتقل فيما بعد إلى معهد موسكو الموسيقي ليدرس بإشراف نيكولاي زفيريف.

في ربيع عام 1891 قدم أول فحص للبيانو في موسكو ونجح بعلامة شرف، وتخرج عام 1892 بعمر ال19 ليصبح رسمياً فنان حر.

ومن أجمل مقطوعاته وأكثرها حزناً هي الTrio élégiaque N°2 in D minor التي ألفها عام 1893 بعد أن علم بوفاة تشايكوفسكي المفاجئة، فموسيقى هذه المقطوعة المؤلفة من ثلاث حركات لها طابع كئيب يكشف عمق وصدق حزنه على صديقه الراحل.

كان العرض الأول لسيمفونيته الأولى في 28 آذار عام 1897 ضمن سلسلة طويلة من السيمفونيات الروسية، و قد تم انتقاده بشكل لاذع من قبل الناقد والمؤلف الوطني سيزار تشوي الذي شبه السيمفونية بالأوبئة العشرة التي أصابت مصر مشيراً إلى أنها قد تثير إعجاب "سجناء" من كونسرفتوارفي الجحيم.

العيوب في العرض الذي تم بقيادة أليكسندر كلازونوف لم يتم ذكرها، لكن السبب في فشل السيمفونية في رأي البعض هو أن كلازونوف لم يستغل وقت التدريب بشكل مناسب بالإضافة لبرنامج الحفلة الذي ضم عرضين أوليين آخرين إلى جانب سيمفونية راخمانينوف، وكذلك حسب شهود كان كلازونوف سكير ومن الممكن أنه كان ثملاً أثناء قيادته للأوركسترا.

بعد الانطباع السيئ عن سيمفونيته الأولى أصيب رخمانينوف باكتئاب عميق دام لثلاث سنوات لم يكتب خلالها أي شيء تقريباً.

وفي نفس الفترة خطب سيرجي ابنة عمه عازفة البيانو ناتاليا ساتينا الذي كان يعرفها منذ طفولته، لكن معارضة أهلها والكنيسة الأورثودوكسية الروسية لزواجهما عرقل خططهم وضاعف من اكتئاب رخمانينوف.

موقف آخر لذع كبرياء رخمانينوف أنه عام 1900 زار مع صديقه المقرب فيودور شاليابين الكاتب الروسي الشهير ليو تولستوي الذي كان سيرجي معجباً به كثيراً، فقام سيرجي بعزف إحدى مؤلفاته لتولستوي وهي الأغنية “Fate” الذي كتبها في الفترة التي تلت سيمفونيته الأولى وكانت معتمدة على أول مقطعين من السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، وكان تعليقه عليها: "هل هناك حقاً من يحتاج إلى هذه الموسيقى؟ يجب أن أقول لك كيف لم يعجبني أي شيء: بيتهوفن هو هراء وكذلك بوشكين وليرمونتوف." ولكن قبل مغادرتهم قال له تولستوي: "سامحني إن جرحتك بتعليقاتي." فرد له سيرجي: "كيف لتعليقك على موسيقاي أن يجرحني إن لم يجرحني أيضاً انتقادك لبيتهوفين؟." وقد ترك انتقاد المؤلف الكبير على الرغم من ذلك أثراً سلبياً كبيراً في نفسه.

في نفس العام بدأ راخمانينوف جلسات علاج مع الطبيب النفسي نيكولاي دال الذي هو نفسه كان موسيقي بارع ولكن كهاوٍ، شيئاً فشيئاً بدأ سيرجي باستعادة ثقته بنفسه وتمكن من التغلب على العوائق التي منعته من استمراره في التأليف، عام 1901 أكمل أحد أهم وأشهر معزوفاته وهو البيانو كونشيرتو رقم 2 و أهداه للدكتور دال، وقد لاقت القطعة نجاحاً كبيراً في عرضها الأول، و الجدير بالذكر أن راخمانينوف قد أدى حينها الكونشيرتو بنفسه .

وبعد مرور ثلاث سنوات على خطبتهم تزوج الثنائي أخيراً وعلى الرغم من الإشاعات عن علاقة غرامية بين سيرجي و المغنية نينا كوشيتز، إلّا أن زواجهما استمر حتى وفاة المؤلف الكبير.

عام 1909 قام بأول جولة له كعازف بيانو في الولايات المتحدة وقد ألف لهذه المناسبة كونشيرتو البيانو رقم 3 ، ولكنه لم يكن سعيداً هناك وقد رفض القيام بجولات أخرى في الولايات المتحدة حتى هاجر من روسيا إليها عام 1917 .

عام 1917 شهد الثورة الروسية وهذا الحدث الكبير قد غير مفهوم روسيا بالنسبة لرخمانينوف، فهو ينتمي للطبقة البرجوازية، و قد خسر أملاكه وطريقة حياته ورزقه، فغادر روسيا متوجهاً مع ابنتيه وزوجته نحو هيلسينكي و حاملاً معه بضع مسودات للقليل من مؤلفاته، ومن ضمنها مقطوعتين أوركستراليتين وأوبرا مونا فانا التي لم تكن مكتملة، ثم تلقى ثلاثة عقود أمريكية للعمل ولكنه رفضها جميعاً.

لاحقاً وجد راخمانينوف أن الولايات المتحدة قد تكون مخرجاً لمشاكله المالية، فتوجه إلى نيويورك عام 1918 حيث قدم 40 حفلة موسيقية ووقع عقداً مع شركة “Victor Talking Machine”.

بسبب انشغاله بتقديم الحفلات تراجع إنتاجه التأليفي بشكل كبير ففي ال 25 عام بين 1918 وموته عام 1943 أكمل فقط 6 مؤلفات، عدا أنّه كان بحاجة للقيام بالجولات والعزف ليعيل نفسه وعائلته فالسبب الأساسي كان الحنين لوطنه، فحين غادر روسيا كان وكأنه قد ترك إلهامه هناك.

عودته للحياة كمؤلف كانت حين بنى لنفسه بيتاً في سويسرا على بحيرة لوسيرن حيث قضى كل صيف هناك في الفترة الممتدة بين عامي 1932 و1939 حيث ألف أحد أهم أعماله وهو “ Rhapsody on a Theme by Paganini”.

في أواخر عام 1942 وأثناء قيامه بجولة، أصيب رخمانينوف بسرطان الجلد و تم إخبار عائلته، أما هو فلم يكن على دراية بذلك.

في 1 شباط عام 1943 حصل هو وزوجته على الجنسية الأمريكية، و أداؤه الأخير كان في 17 شباط عام 1943 في جامعة تينيسي في مدينة نوكسفيل وتضمن العرض السوناتا رقم 2 لشوبان والتي تحتوي على ال Funeral March الشهيرة، و بعد هذا الحفل ساءت صحته لدرجة أنه اضطر أن يعود إلى بيته في لوس أنجيليز، و بعد ذلك نحت فيكتور بوكاريف تمثال كتب عليه: "راخمانينوف: الحفلة الأخيرة" “Rachmaninoff: The Last Concert” في مدينة نوكسفيل كتكريم له.

توفي رخمانينوف في 28 آذار عام 1943 في بيفرلي هيلز في كاليفورنيا بعد صراع مع السرطان، فقط قبل أربعة أيام من عيد ميلاده السبعين.

كان قد رغب في أن يتم دفنه في بيته في سويسرا لكن ظروف الحرب العالمية الثانية في ذلك الحين جعلت الأمر مستحيلاً، فدفن في 1 حزيران في نيويورك.

موسيقاه:

ألف راخمانينوف خمسة قطع للبيانو والأوركسترا (4 كونشيرتات للبيانو و Rhapsody on a theme of Paganini)، و ثلاث سيمفونيات، كما ألف أعمال أوركسترالية أخرى منها „The Rockو””Caprice bohemien و” The Isle of the Dead” و”Symphonic Dances”.

ألف أعمال منفردة للبيانو أشهرها ال24 بريلود، وألف ثلاث أعمال أوبرا، بالإضافة إلى 2 سوناتا للبيانو كما ألف عدد من الأعمال لآلتي بيانو (4 أيدي) و غيرها الكثير من الأعمال.

أسلوبه:

ظهر جلياً تأثير تشايكوفسكي في كونشيرتو رخمانينوف الأول للبيانو، ثم بدأ شيئاً فشيئاً بتطوير أسلوبه الخاص، فسيمفونيته الأولى وضع فيها العديد من مميزاته وكانت لها إيماءات مفاجئة وقوة مفاجئة في التعبير كانت غير مسبوقة في الموسيقى الروسية أنذاك، إلّا أن الانطباع السيئ التي حظيت به السيمفونية الأولى دفعته أن يميل نحو إيقاعات فخمة وغنائية و جعلت ألحانه عاطفية، مؤلفاته الأوركسترالية أصبحت أكثر ثباتاً وتنوعاً وكتاباته على العموم أكثر إيجازاً.

يلاحظ أيضاً استخدام راخمانينوف لكوردات بعيدة جداً عن بعضها لإعطاء التأثير الجرسي.

التعقيد الذي اعتمده راخمانينوف في الكثير من مؤلفاته يظهر بقطع أكثر من أخرى (مع أنها سمة عامة لأغلب ما ألفه) مثل ال “Op. 39 Études-Tableaux” فهذه المجموعة تعتبر من بين القطع الأكثر تطلباً على الصعيد التقني وعلى المؤدي أن يتجاوز كل الصعوبات التقنية وأن يظهر عاطفة كبيرة ومن ثم أن يوحد جميع هذه العوامل لينتج عملاً متكاملاً.

كان يعد رخمانينوف من أعظم عازفي البيانو في عهده إلى جانب كل من Leopold Godowsky و Ignaz Friedman و Moriz Rosenthal و Josef Lhevinne و Josef Hofmann، حيث أنه امتلك تقنية نظيفة امتازت ببراعة فائقة وعزفه اتصف بالدقة المدفوعة بالإيقاع واستخدامه لأسلوب النقر وقدرته على المحافظة على نقاء الصوت رغم تعقيد القطعة، وامتلك راخمانينوف يدين كبيرتين جداً مما ساعده على التحرك بسهولة بين أكثر الكوردات تعقيداً، وتقنية يده اليسرى كانت قوية بشكل عجيب، فقط ليفين وهوفمان شاركوه هذه الموهبة واعتمد الرجال الثلاثة على أنتون روبنشتاين كمثل أعلى لهم في العزف.

كما امتلك رخمانينوف ذاكرة خارقة حيث أنه كان يسمع قطعة موسيقية ومن ثم يعزفها في اليوم التالي، وفي أدائه كان يعتمد على التخطي وليس ذاكرته فحسب، حيث كان يعتقد أنه لكل قطعة موسيقية نقطة ذروة، بغض النظر عن موقعها في القطعة وعلى العازف أن يعرف كيف يبني للوصول إليها بكل دقة وإلّا ستنهار القطعة بأكملها.

وإن كانت مؤلفات رخمانينوف كثيرة وعظيمة إلا أننا لن نستطيع ذكرها جميعاً و سنكتفي بعرض مجموعة من أهم أعماله:

"الموسيقى تكفي مدى الحياة، لكن الحياة لا تكفي للموسيقى."

سيرجي راخمانينوف

ندع لكم بعض من أشهر مؤلفاته:

(Piano Concerto No. 2 (The Bell:

Piano Concerto No. 3:

Rhapsody on a Theme of Paganini:

Symphony No. 1:

Symphony No. 2:

Trio élégiaque No. 2:

Suite No. 2 for two pianos:

Prelude No. 2 Op. 3 in C# minor:

Prelude No. 5 Op. 23 in G minor:

Prelude No. 2 Op.23 in B flat major:

Cello Sonata:

Variations on a Theme of Chopin:

Variations on a Theme of Corelli:

المصادر:

هنا

هنا

كتاب:

(Classical Music (DK