البيولوجيا والتطوّر > التطور

ثلاثة دلائل تؤكد صحة نظرية التطور

لأكثر من 150 عام - منذ زمن "تشارلز داروين"- خضعت نظرية التطوُّر إلى تحريات ودراسات مستفيضة وجدية أكثر من أي نظرية علمية أخرى، ومن حينها لم تُسفر الأبحاث إلا عن دعم صحة النظرية بالدليل تلو الآخر، وعلى الرغم من محاولة كثير من الناس إظهار التطور كعلم غير واسع القبول في الأوساط العلمية لسببٍ أو لآخر، لكنَّ الحقيقة غير ذلك؛ ففي مختلف الجامعات ومؤسسات الأبحاث والمنظمات العلمية لم تصل نظرية التطوُّر إلى قبول عالمي فحسب، بل أصبحت الأساس الذي تستند إليه أهمُّ الأبحاث وأنشطها وأكثرها إثارة. 

يهدفُ هذا المقال إلى شرح أنماط التطور في الطبيعة ليتمكن القارئ من التعرُّف إلى هذه الأنماط بنفسه لاحقًا، وهكذا يتمكَّن من الحكم على صحَّة ما يقرؤه عن التطور، وبمعنى آخر عندما نفهم آليات التطور سنتمكن من تقييم صحة الأدلة المُقدَّمة أو خطئها؛ لذا سنقدم لكم ثلاثة أدلَّةٍ تؤكد صحَّةَ نظرية التطور، فأعيرونا أذهانكم كي نقرأ معًا... 

1- تشترك الأنواع بتشابُهاتٍ مورفولوجيةٍ (شكليَّةٍ) وتتوزع جغرافياً تبعاً لنِسَبِ التشابه مما يشير إلى وجود سلف مشترك لها: 

انظر إلى عائلتك مثلًا؛ فتلاحظ أنَّك تشبه أقاربك الأقرب (أمك وأباك وإخوتك) أكثر من تشابهك مع أبناء عمك، وبالمثل فأنت تشبه أبناء عمك أكثر مما تشبه أقاربك الأبعد أو الغرباء أو قاطني الطرف الآخر من الكوكب؛ فكلما اقترب النسب ازداد التشابه وكلما ابتعدت أكثر انخفضت الصفات المتشابهة، وهذا بالطبع يتجاوز المستوى السطحي ليصل إلى المستوى الوراثي والجغرافي، والملاحَظ هنا هو التناسب والاتساق الذي يظهره توزع نسب التشابهات وفقًا للتقارب الجغرافي والوراثي. 

 

هذا النمط من التشابه الموجود في عائلتك يمد جذوره في كل أشكال الحياة على الأرض؛ فكيف نعرف إذن أنَّ هذه التشابهات ليست تصميمًا عامًّا للكائنات؟ في الحقيقة؛ إنَّ نمط التشابه وتوزيع نِسَبه واضحٌ وضوحًا صارخًا، وتأتي التشابهات بين الأنواع في شكل تسلسلات هرمية متداخلة بمعنى أنَّه كلما ازدادت التشابهات عددًا ازدادت عمقًا وتنوعًا أيضًا؛ لماذا؟ لأنَّ التشابهات موروثةٌ من أسلافٍ مشتركين؛ لذلك فكلَّما كان السلف المشترك لنوعين موغِلًا  في القِدم تباعدت الأنواع واختلفت المورثات وتلاشت التشابهات؛ فالأنواع ذات التشابهات الكثيرة تميل للعيش بعضها قرب بعض؛ فأنواع البطريق مثلًا تعيش في نصف الكرة الجنوبي فقط، وتوجد الجرابيات تقريبًا حصريًّا في أستراليا، وتعيش الصباريات تقريبًا حصريًّا في الأمريكيتين، وتعيش أنواع الليمور في مدغشقر فقط... إلخ.

فإذا كان التطور غيرَ صحيحٍ؛ فهذا التوزيع الجغرافي سيكون غيرَ منطقي أبدًا، وفوق كل هذا فالتشابهات ستبدو اعتباطية تمامًا مما يتناقض مع توزعها المتقن، وذلك يستبعد امتلاكها لفائدةٍ انتقائية. 

 

2- التعاقبات الكثيرة للأنواع وتغيرها عبر الزمن: 

من أهم الاكتشافات التي قادت العلماء نحو نظرية داروين عن التطور؛ كانت الحيوانات المنقرضة التي وُجِدَت في شكل مستحاثات، وقد لاحظ علماء الحفريات الأوائل؛ كـ "تشارلز ليل وجورج كوفير" حقيقة بسيطة وهي أنَّ الأنواع التي عاشت في الماضي كانت مختلفة غالبًا تمامًا عن الأنواع الموجودة اليوم، ومن أمثلتها ثلاثيات الفصوص والديناصورات والكسلان العملاق والباكيوليتات... إلخ؛ ممًّا يدل على أنَّ  الحياة على الأرض تغيرت كثيرًا، وهذه الحقيقة مثيرة للدهشة وما يزيد في إذهالها أننا كلما غصنا أعمق في التاريخ كانت الأنواع أكثر اختلافًا عمَّا نراه اليوم، ويمكن رؤية هذه الأنماط الشاملة للتعاقب على المستوى الفردي أيضًا؛ إذ تتغير الأنسال عبر الزمن؛ فأنت تشبهُ أباك أكثر مما تشبه جَدَّك، وتشبه جدك أكثر مما تشبه جَدَّ جدِّك، وهكذا كلما رجعنا أكثر ازدادت الاختلافات الوراثية. 

 

كيف نعرف إذن أنَّ هذه التعاقبات من المستحاثات لا تُمثل أنواعًا منفصلة لا يربطها رابط؟ 

أولًا- التشابهات بينها تدل على قرابتها، ثانيًا- هي تمثل نمطًا تعاقبيًّا من التغيرات؛ فمثلًا؛ يزداد تعبير النوع عن صفة معينة من تعبير منخفض إلى تعبير عالٍ عبر الزمن (أي تبدأ الصِّفة بالظهور ظهورًا طفيفًا  ثم نلاحظ ازدياد التعبير عنها بالتدريج عبر الأجيال في حال كانت ذات فائدةٍ انتقائية للنوع). 

وأخيرًا؛ فإن المستحاثات تُنظَّم وتؤرَّخ مباشرة كالتأريخ بالقياس الإشعاعي، أو على نحوٍ غير مباشر كالتأريخ النسبي بالاستعانة بالطبقات الدالة المميزة (unique marker layers) أو المستحاثات أو تقنيات أخرى، ولتقدير أعمار المستحاثات بدقة تُستخدَم "أكثر من طريقة مختلفة على العينات نفسها" وتُظهِر النتائج كلَّ مرَّةٍ تقاربًا كبيرًا في التقدير العمري الناتج مما يرفع ثقتنا في النتائج. 

ومن الجدير بالذكر أنَّ المستحاثات ليست الطريقة الوحيدة لرؤية تغيُّر الأنواع؛ إذ نستطيع أن نرى ذلك في المختبر أيضًا، وعن طريق التوزع الجغرافي الناتج عن انتشار الأنواع أو عن طريق الانتقاء الاصطناعي الذي يمارسهُ البشر؛ فإذا كنتَ تستطيع أن تُميز بين الملفوف والقرنبيط والبروكولي فأنت تدرك تمامًا ما يعنيه هذا؛ فتلك الأنواع كانت جميعًا نباتًا بريًّا واحدًا منذ بضعة آلافٍ من السنين! 

 

3- تمتلك الأنواع صفاتٍ تُمثل بقايا من الأجيال الماضية: 

يوجد على كل منتَجٍ اليوم لُصاقة صغيرة بتاريخِ إنتاجه ومكانه، وبالمثل فإنَّ فالأنواع تحمل علامات تدل على المكان الذي أتت منه، وهذه الدلائل على المنشأ يمكن أن تكون في شكل صفات ناتجة عن تغيُّر وظيفي (Repurposed trait) أو الصفات التي تَحدُّ من احتمال استمرار أو تكاثر النوع أو غياب الصفات المنطقية (Sensible trait). 

أي أنَّ الأنواع لها عيوب وهذه العيوب هي ما يدل على أصلها الطبيعي؛ فالطيور التي لا تطير لا زالت تمتلك الأجنحة، ونحن البشر لا يزال الشعر الدقيق على أجسادنا ينتصب كما ينتصب شعر القطة عند الخوف أو شعر الثدييات الأخرى للتدفئة عند البرد، وحتى إنَّ الحيتان هي ثدييات كانت أسلافها تسير على البر في الماضي السحيق ولا زالت تمتلك حوضًا يدعم المشي وبقايا أقدام (انظر إلى هذا الفيديو الرائع هنا )، وهذا على المستوى التشريحي؛ أمَّا على المستوى الوراثي؛ فكذلك نلاحظ امتلاك الكائنات مورثاتٍ غير وظيفية متشابهة مع تلك التي قد تكون وظيفية لدى أنواع متقاربة، وهي بذلك بقايا تدلنا على الأصل المشترك لهما. 

 

أهم ما نستمدُّه من معرفة هذه الأسباب الثلاثة لصحة نظرية التطور وقوتها هو أننا الآن قادِرون على تفحص أي نوع حي وطرح الأسئلة الآتية: 

• هل لهذا النوع تشابهات مع أنواع أخرى تدل على قرابة بينها؟ 

• هل يمكن رؤية تعاقبات تغير هذا النوع في السجل الأحفوري أو سجلات التاريخ أو عن طريق الجغرافيا؟ 

• هل لهذا النوع أي صفات أثرية تدلُّ على أجياله السابقة؟ 

اطرح هذه الأسئلة كلَّ مرة وابحث قليلًا؛ فيمكن أن تغير هذه الأسئلة الثلاثة نظرتك بالكامل إلى المملكة البيولوجية حولك. 

المصادر: 

هنا;

هنا;

هنا;

هنا;

هنا;

هنا