الفنون البصرية > فن وتراث

بطولة البولنديين واللتوانيين، أكثر اللوحات فخرا في بولندا

لازلتُ أمعن النظر في تأمُّلِ مفاخرِ الشعوب، فتارةً نجدُ رمزاً هو مدعاةٌ للفخرِ لدى شعبٍ ما، لكن في الوقتِ ذاته قد يكون ذلك الرمز لدى شعبٍ آخر مدعاةً للغضبِ والاستنكار. لكن هذا العمل الفنّي يحتفِظُ بنكهتِه الخاصة فهو لا يمثل واقع الحادثةِ التي يتحدث عنها، بل هو أشبه بتصورٍ مبدعٍ لقصةٍ تاريخية مهّدت لحريةِ شعبِ بولندا وليتوانيا من ظلم الغزات التوتونيك.

هذه اللوحة الضخمة التي أبدعها الرسام البولندي "يان ماتيكو" سنة 1878 متصوراً وضع تلك المعركة و الشجعان الذين مهّدوا لمملكةٍ حرّةٍ مُستقلة، تكمنُ قيمتها في تصويرِها لمشهدِ مقتل ِالقائد الأعلى "أولريك فون جونجينجين" كما تمّ التطرق فيها إلى مجموعةٍ من الشخصيات المحورية التي صنعت هذه المفخَرة.

تتراوحُ أبعادُ هذه اللوحة الضّخمة 426 سم طولاً وَ 987 سم عرضاً! رُسِمت على قطعةٍ من قماش، بدأ ماتيكو بتجميع مستلزمات هذا المشروع الضخم منذ عام 1874، ولكنّه استغرق عاماً كاملاً حتى استطاع جمعها كلّها، ليتمّ الانتهاء من هذا العمل البديع المُهيب في عام 1878، تكريماً لهذا العمل الجبّار حصل بعد فترة قصيرة من إنجاز هذه اللوحة على صولجان من مجلس مدينة كركاوف في احتفالٍ رسمي، ليشتري تلك اللوحة رجل من وارسو يدعى "داود روزنبلوم"،ولتعرض لاحقاً في العديد من المعارض الدولية يقوم بدورهِ بِبيعها لورثة روزنبلوم لجمعية (Towarzystwo Zach?ty Sztuk Pi?knych) المتخصصة في تشجيع المواهب، وليتمّ عرض اللوحة في وارسو، وكان ذلك سنة 1902.

جاءت الحربُ العالمية الثانية لتُلقي بظلالِها السوداء على بولندا. لكن من جاء إلى أراضيهم غازياً من جديد هذهِ المرّة!؟

إنّهم أحفاد الجرمانيين الذين طردوهم في معركة جرونوالد، عادوا مجدداً لغزو البلاد.

كان لابد من إخفاءِ اللوحةِ وحراسةِ هذا الإرث العظيم، لتختفي هذه اللوحة عن الأنظار جنباً إلى جنب مع لوحةِ تكريم البروسي و التي تُعدّ إحدى أهم اللوحات في تاريخ بولندا وصُنفت ضمن قائمة اليونيسكو للتراث العالمي (سنأتي على ذكرها في مقال لاحق) تصدرت كِلتا اللوحتين قائمة الأشياء المطلوبة للنازيين، حيث شعر النازيين بالعار من هاتين اللوحيتين وأنّهُ لابد من محوِ هذا العار من خلال تدمير هذهِ اللوحات، فأصبحات تلك اللوحات منوطة ببحث من قبل القوات الغازية، ووُضعت مكافأة ضخمة لمن يدري بمكانِهما، وعندما رفض الشعب الإدلاء بأيّة معلومة، نهَجت القوات النازية نهجاً عنيفاً من خلال حملاتِ الاعتقال والتعذيب، لكنّ اللوحة في مأمن بعيداً أيدي القوات قرب مدينة لوبلين.

وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وخرج الجرمان من أرض بولندا مجدداً، لتخرج اللوحة إلى العلن سنة 1949 وتنصب في متحف وارسو الوطني، وفي عام 1999 أعيرت إلى الجارة ليتوانيا، حيث لطالما مثّلت هذهِ اللوحة فخراً لليتوانيين، فحصلت على ترحيب جماهيري غفير لا ينسى.

وبحلولِ الألفية الجديدة شرعَ المتخصّصون بترميمِ اللوحات في مشروع ترميم لوحة "معركة جرونوالد" ولكن ضخامة اللوحة جعل ترميمها يأخذ وقتاً طويلاً، لينتهي في عام 2012 ولِتُعرض من جديد في المتحف الوطني، وتمثل هذه الصورة المكان التي عرضت فيه هذه اللوحة النفيسة:

إذا امعنتَ النظر في هذهِ اللوحة، فإن الوجوه الموجودة فيها تمثّل شخصيات تاريخية حقيقية مهمة جداً في التاريخ البولندي-اللتواني المشترك.

الشخصيةُ الأولى:

فيتوتاس الأكبر: من أكبرِ رجالات وشخصيات ليتوانيا، شكّل مجدَ ليتونيا في القرنِ الخامسِ عشر، ومشاركته في هذه المعركة كانت مشاركةً بارزة جداً مما جعل ماتيكو يعطيه مكانة بارزة بردائهِ الأحمر الشهير ودرعهِ القوية و سيفهِ المميز عبر التاريخ.

الشخصيةُ الثانية:

القائدُ الأعلى للفرسانِ التوتونيك" أولريك فون جونجينجين"، حيث نشاهد في اللوحة مقتله على يد أبناءِ ليتوانيا وبولندا. يُعتبر هذا النصر الكبير ضد الفرسان الجرمنيين غاية الفخر إذ نلاحظ اندحار جيشه من خلفهِ وتعرّضه لطعنتين واحدة من رجل بولندي والثانية من رجل ليتواني لتمثل اتّحاد الشعبين ضد الأعداء الغزاة.

الشخصية الثالثة:

يان جيجكا: وهو جنرال بوهيمي من التشيك ساهم في صناعة هذا النصر

الشخصية الرابعة:

زندرام أمير ماشكوفيتزا: فارسٌ ومحارب بولندي شجاع، يُعدُّ رمزاً من رموز الفخر البولندي

الشخصية الخامسة:

زافيشا تشارنة: فارسٌ ونبيل بولندي، وهو مثلُ سابقه من حيث درجة الأهمية

الشخصية السادسة:

القديس ستانيسلاوس: نجدهُ في أعلى اللوحة، هو لم يكن في أرض المعركة، إلّا أن ماتيكو افترض أن صلواته لم تتوقف كي ينتصر المقاتلون، فكان رسمهُ إشارةً لوجود روحه ضمن أرض المعركة.

كما شهدت اللوحة وجود أكثر من 15 شخصية أخرى موزّعة بين التوتونيين واللتوانيين والبولنديين في ملحمة تاريخية اختزلها ماتيكو في هذه اللوحة المميزة.

وفي اللوحة أيضاً نلاحظ استخدام ماتيكو ل 3 مفاتيح أساسية لفهم هذه اللوحة، المفتاح الأحول وهو الهجوم الغادر من القوات الغازية، الفتاح الثاني هو مشهد اغتيال القائد الأعلى للتوتونيك الجرماني، والمفتاح الثالث وهو الانتصار والاستيلاء على المعسكر التوتوني. وخلافاً لكثير من اللوحات التي تفصل المعارك، فإن هذه اللوحة لا تفصل بين مشاهد المعركة نفسها، بدلاً من ذلك فإن ماتيكو يضع المشاهد في منتصف اللوحة.

استندت اللوحة في وصف وتصوير المعركة الحاصلة إلى سجلات دوجوش التي اشتملت على الكثير من المغالطات التاريخية، ولكن "ماتيكو" وُفِق بوصفِ تضاريس موقع المعركة بعد أن زار موقع الصراع سنة 1877.

المراجع:

هنا

هنا

هنا