الطبيعة والعلوم البيئية > عجائب الأحياء

سلسلة

نعرف جميعاً قدرة الببغاوات على محاكاة الأصوات لكنها تتفاوت في قدرتها هذه لأسباب مختلفة كما أظهر بعضها قدرات ومهارات تنمّ عن ذكاء قلّ مثيله في عالم الحيوان.

تقلد الببغاوات الرمادية الإفريقية أصوات الطيور الأخرى وفي الأسر تتحول لتقليد أصوات البشر. يرعاها الناس لقدرتها على غناء نوتات أخفض من الطيور الأصغر منها حجماً بالإضافة إلى التسلية التي يقدمونها بفضل تقليد أصوات البشر. ومما يدعو للاستغراب، ماهية السبب الذي يدفع هذه الطيور للتقليد بدلاً من تطوير لغة خاصة أو على الأقل إعفاء نفسها من هذه المهمة التي تتطلب الإنصات واستخدام الذاكرة ثم السيطرة على العضلات المتعلقة بالتصويت لإنتاج أصوات مماثلة لما سمعته؟

قد تكون المحاكاة مفيدةً في تطوير نداءات ذات سياق محدد فيما بين الطيور. كأن يتم جذب شريك محتمل وإغراؤه بتقليده. بالإضافة إلى ما يتضمنه التقليد من تنشيط وتدريب للذاكرة. قد تساعد النداءات المتشابهة أيضاً الذكور والإناث في العثور على بعضها أو ربما تجنب بعضها. إضافةً إلى ذلك يبدو أن جذب طير لانتباه طير آخر سيكون أسهل وأجدى إذا صنع له صوتاً مماثلاً لصوته الأساسي والموجود أصلاً في ذاكرته خصوصاً وسْط بيئة صاخبة.

وجدت الدراسات أن الببغاوات تتفاعل بقوة أكبر مع تلك التي تحاكيها في لهجتها، فللببغاوات لهجات تتبع للمناطق التي تنتمي إليها.

صحيح أن التقليد ليس حكراً على الببغاوات فطيور أخرى كالمينة الهندية Indian Mynah و الكارادينالز Cardinals تفعل الشيء ذاته تقريباً، لكنّ ما يثير الاهتمام في الببغاوات أكثر من قدرتها على التقليد هو ذكاؤها وقدرتها على التعلم والاستجابة لبعض الطلبات أو الأسئلة. ورغم أن الطيور عامةً والببغاوات خاصةً لا تقارن في هذا المجال مع ما وصلت إليه الرئيسيات التي تناولناها في مقالنا السابق، إلا أن لديها قدرة مميزة استحقت الدراسة والاهتمام.

بدايةً تعتبر دراسة جهاز التقليد لدى الببغاء وسيلة هامة لفهم كيفية تطور الآليات العصبية للتواصل الاجتماعي المعقّد الذي نتمتع به. وقد حاول العلماء معرفة تسلسل الجينوم المسؤول عن قدرة الببغاء على تقليد الأصوات لأن ذلك يمكن أن يزود علماء الأعصاب بمعرفة المناطق الجينية التي تتحكم بتطور الكلام لدى البشر.

أظهرت الدراسات أن الببغاء الرمادي الأفريقي يمكن أن يحمل قدرات سبق واعتقد أنها محصورة بالبشر أو على الأقل ببعض الرئيسيات غير البشرية. تعلّم هذا الببغاء استخدام الألفاظ الإنكليزية لتحديد الأشياء والطلب والرفض وإعطاء تعليق حول أكثر من 80 عنصراً مختلفاً من الأشكال والألوان والمواد. كما ثبتت قدرته البدائية على التصنيف لمجموعة أشياء يصل عددها إلى الستــّة.

استطاع هذا الببغاء بالتدريب أن يستخدم -وظيفياً- عبارات من قبيل: "تعال إلى هنا" و "لا" و "أريد الشيء الفلاني" و "أريد أن أذهب إلى المكان كذا".

لكن كل ما ذكر لم ينفع كحجج لمواجهة النقاد الذين لا يزالون يؤمنون بأن لا كائن غير البشر، قادر على فهم واستخدام العلاقات الرمزية المجرّدة. معرفة التشابه من الاختلاف اقترن لأمد طويل بالإنسان والرئيسيات فقط لكن بعض أنواع الحمام المدرّب والببغاوات استطاعت امتلاك هذه المهارة لكن لأشياء مألوفة وتم التدرب عليها معظم الأحيان.

كان الببغاء الرمادي الإفريقي محطّ دراسات "التواصل ضمن النوع" بالإضافة إلى القدرات الإدراكية لديه منذ عام 1977. من هذه التجارب أن عرض عليه مجموعة من 3 أشياء متشابهة باللون أو الشكل أو المادة أو مختلفة بحيث يتم سؤاله شفهياً "ما المتشابه" أو "ما المختلف" ويتوجب عليه الإجابة بـ "اللون" أو "الشكل" دون الحاجة لذكر اسم اللون مثلاً.

في هذه التجربة يتوجب على الطائر أن يحدد من لفظ المدرب ما المطلوب (التشابه أم الاختلاف) ثم يحدد المادة التي صنعت منها الأشياء ولونها وشكلها ليتمكن من الإجابة التي يجب أن تنتج صوتياً أيضاً. الهدف كان إثبات أن الطائر قادر على فهم أن الاختلاف بين مثلثين ورقيين أزرق ووردي هو اللون حتى لو لم يسبق له أن تعرف على أي من اللونين.

بعد ما يزيد على العام من التدريبات التي استُثمِر معظمها في تعليم اللفظات الجديدة أدرك المدربون أن العملية تصبح أسهل عندما يتعلم الطائر التحكم بمنقاره ولسانه وقناته السمعية لإنتاج المجموعات الجديدة من الأصوات. كما أن النجاح في النهاية حصل تدريجياً فبدلاً من القول بأن اللون هو المختلف كان يقول أحياناً "أصفر" مما يدل على أن الإجابة الصحيحة كانت حاضرة في ذهنه قبل الاتقان النهائي للعملية.

كانت 76.6% من الإجابات صحيحة في الاختبارات المطبقة على الأشياء المألوفة لكن غير المستخدمة مباشرةً أثناء التدريب، علماً أن أي لفظ إضافي مع الإجابة الصحيحة لم يكن يؤخذ على أنه إجابة خاطئة. بينما تمكن الببغاء من تحقيق نسبة إجابات صحيحة بلغت الـ 82.3% مع الأشياء التي كان تركيب شكلها ولونها ومادتها جديداً حيث تضمنت المواد المعروضة مادتين جديدتين على الأقل (يقصد عرض مثلث خشبي بني اللون في حين أن اللون البني لم يقترن في مشاهدات سابقة بمادة الخشب أو شكل المثلث)

في تجربة أخرى على نفس النوع من الببغاوات وبعد 26 شهراً من التدريب اكتسب الطائر مفردات لفظية تصف الألوان والأشكال والأسماء بالإضافة إلى القدرة على جمعها بشكل صحيح لفهم وبناء طلبات ورفض أوامر مختلفة. وقد بلغت نسبة نجاحه الـ 80%. استغرق الببغاء أثناء التدريب من شهر إلى شهرين ليتقن جيداً الكلمات الجديدة التي تعلمها؛ بمعنى أن البدء بتدريبه على لفظ جديد اليوم سيجعله متقناً جيداً لهذا اللفظ بعد شهر إلى اثنين.

و تماماً كما الأطفال، لوحظ أن الببغاء يبدأ خارج أوقات التدريب بتمتمة ألفاظ لا يفهمها المدرب (هذيان). يشير هذا الهذيان عند أطفال البشر إلى المرور بمرحلة تنمية صوتية، ويـُـتوقع أن يكون لذلك التأثير نفسه عند الببغاوات.

وللعلم فإن تدريب الببغاء يستلزم تأقلم المدرب معه ومع طريقة لفظه، مثلاً قد يعاني الببغاء من مشكلة مع بعض الأحرف الصامتة التي تأتي في آخر الكلمة مثل كلمة خشب Wood حيث يلفظها الببغاء Whut.

بعيداً عن التجارب المخبرية، لا بدّ من القول أن مواظبة المربين على تعليم هذه الطيور للألفاظ والجمل سبق وأدى إلى نتائج مبهرة واستثنائية، كالببغاء أينشتاين مثالاً. أينشتاين طير من ببغاوات كونغو الإفريقية الرمادية فقس عام 1997 في تكساس ووصل إلى النجومية بفضل عروضه التي يقدمها في حديقة نوكسفيل في الولايات المتحدة.

اللائحة الكاملة للكلمات التي يستطيع أينشتاين –الببغاء– أن يقولها موجودةٌ في المصدر الأول ومنها ما يقابل بالعربية:

جميع – حسناً – بعيداً – رائع – عصفور – رعاية – عِــناق – دجاج – كمبيوتر – شراب – غيمة – مرحباً – غداء – جميل – خائف – سخيف – ماء .... وغيرها بالإضافة إلى مصطلحات منها:

أحب الريش – تناول خضارك – افتقدك – أنا أغني – دعنا نذهب للعشاء – أريد بسكويت – أنت على حق ... الخ

يدّعي أصحاب أينشتاين أن لديه من بين ما يتقنه كلمات مفضلة يكررها أكثر من غيرها وأنه لم ينسَ قط كلمة واحدة. كما أنه يتعلم الأصوات والكلمات الجديدة باستمرار.

إذاً فأن يستطيع الببغاء تقليد صوت الإنسان فهو شيء ليس بجديد، لكن أن لا تعتبر تلك ميزة استثنائية بزعم أنه يقلد ما لا يفقه فهو أمر يحتاج ربما لإعادة التفكير فقد أثبت بالتدريب قدرته على معالجة ما يقول والتفكير فيه، وربما استخدامه وظيفياً.

نشير أخيراً إلى أن فقدان المواطن الطبيعية للببغاوات واستثمارها في التجارة والتربية المنزلية يضعها على حافة الانقراض كنوع حيواني .... لكن وبالنسبة للببغاوات، فمما يخشاه الباحثون ليس فقدانها ككائنات فقط بل فقدان التنوع المتمثل باللهجات المناطقية التي تمتلكها أيضاً.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا