الفيزياء والفلك > فيزياء

رصد دلائل على ثقبين أسودين فائقي الضخامة في مراحل اندماجهما الأخيرة

تحتوي العديد من المجرات المرصعة بالنجوم (بما في ذلك مجرتنا) في مركزها على ثقب أسود ذو كتلة هائلة تعادل ملايين أو مليارات المرات كتلة الشمس. بل وبالإضافة إلى ذلك يبدو أن هذه الثقوب السوداء الضخمة تنشأ مع نشوء المجرات وتنمو معها. تتنبأ النظرية انه خلال تصادم واندماج المجرات فإن الثقوب السوداء في مراكزها تقوم بالمثل أيضاً.

من المستحيل رؤية الثقوب السوداء بحد ذاتها،ولكن بسبب الجاذبية الهائلة التي تملكها فإنها تجذب الغاز المحيط مشكلة قرصا دوّاماً من المواد المنجذبة ، و تتسارع الجسيمات التي تدور في هذا القرص إلى سرعات هائلة مطلقة كميةً هائلةً من الطاقة على شكل حرارة و أشعة (X) وأشعة غاما . وفي هذه الحالة تسمى المنظومة المؤلفة من الثقب الأسود الفائق الضخامة مع القرص الهائل من الغاز والغبار المحيط به :كوازار. – و هي أجسام مضيئة جداً بحيث يفوق تألق الواحد منها جميع النجوم الموجودة في المجرة المضيفة له، و يمكن رؤيته من جميع انحاء الكون. يقول أستاذ علم الفلك ومدير مركز data-driven discovery في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا George Djorgovski: الكوازارات هي من الدلائل القيّمة على تطور المجرات و الثقوب السوداء المركزية.

في عدد 7 كانون الثاني من مجلة Nature، أشار بحث لـ Djorgovski و زملائه عن إشارة ضوئية متكررة ملتقطة من كوازار بعيد و الذي يرجح انه نتج عن اثنين من الثقوب السوداء فائقة الكتلة في المرحلة النهائية من اندماجهما . و هو شيء متوقع من الناحية النظرية ولكن لم يتم رؤيته فعليا . سيساعد هذا الاكتشاف في تسليط الضوء على لغز حير العلماء طويلا في الفيزياء الفلكية و هو ما يدعى بـ "مشكلة الفرسَخ الأخير " ( final parsec problem ) *، و الذي يشير الى فشل النماذج النظرية في تحديد المراحل النهائية لاندماج اثنين من الثقوب السوداء، أو حتى كم من الوقت تستغرق هذه العملية . ويقول مؤلف الدراسة الأولى، ماثيو غراهام، وهو عالم بارز في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا الحسابية " فهمنا للمراحل النهائية لاندماج هذه الثقوب السوداء ضعيف للغاية في الوقت الحالي،واكتشاف مثل هذا النظام في هذه المرحلة المتقدمة من التطور يعني اننا سنمتلك دلائل رصديّة لفهم ما يجري ".

اكتشف Djorgovski وزملاؤه إشارة ضوئية غير عادية منبعثة من الكوازر ( PG 1302-102 ) وذلك بعد تحليل النتائج من منظومة Catalina Real-Time Transient Survey أو ( CRTS ) ، وهي منظومة تستخدم ثلاثة تلسكوبات أرضية في الولايات المتحدة و استراليا لمراقبة حوالي 500 مليون من مصادر الضوء السماوية المتناثرة عبر نحو 80 بالمئة من السماء ليلاً وذلك بشكل مستمر بحثاً عن انبعاثات ضوئية مؤقتة أو طارئة. يضيف Djorgovski الذي يدير ( CRTS ) : لم يكن هناك مجموعة من البيانات عن تغيرات الكوازارات تصل إلى هذا الحد. في السابق كان العلماء الذين درسوا التغير في الكوازرات قادرين فقط على متابعة العشرات أو ربما المئات من الأجسام و مع عدد محدود جداً من القياسات فقط . و لكن في هذه الحالة تمكنّا من النظر إلى ربع مليون من الكوازارات و كنا قادرين على أخذ عدة مئات من نقاط البيانات لكل جسم .

يضيف المؤلف المشارك في الدراسة دانيال ستيرن، وهو عالم في مختبر الدفع النفاث التابع لـ NASA : حتى الان فالأمثلة المعروفة عن الثقوب السوداء التي في طريقها نحو الاندماج مع بعضها تفصلها عن بعضها عشرات أو مئات الآلاف من السنين الضوئية. عند مسافات شاسعة كهذه ، قد تستغرق ملايين أو مليارات السنين حتى تصطدم و يحدث الدمج . في المقابل فان الثقوب السوداء في ( PG 1302-102 ) هي على الاكثر على بعد بضع مئات من السنوات الضوئية و قد تندمج ببعضها خلال مليون سنة أو أقل .

لم يكن Djorgovsk وفريقه يبحثون بالأساس عن اندماج الثقوب السوداء ، دراساتهم كانت بداية عن التغير في سطوع الكوازارات أملاً في ايجاد دلائل جديدة تمكنهم من فهم فيزياء الكوازارات . و لكن بعد فحص البيانات باستخدام خوارزميات للبحث عن الأنماط والتي قام بتطويرها غراهام ، وجد الفريق 20 كوازاراً تبدو أنها تُصدر إشارات ضوئية دورية. كان ذلك مفاجئا لأن منحنيات ضوء معظم الكوازرات تكون عشوائية (عاكسة بذلك الطبيعة العشوائية للمواد المكونة للقرص المحيط بالثقب الأسود ) يضيف غراهام : من غير المتوقع رؤية اشارات دورية صادرة من الكوازارات. وفي حال حصل ذلك فسيمكنك ملاحظة هذه الحالة فوراً.

من بين الكوازارات العشرين ذات الإشارة الدورية التي تمكن (CRTS) من تحديدها ، كان ( PG 1302-102 ) أفضل مثال . فقد كانت اشارته قوية وواضحة، فكانت تكرر نفسها كل 5 سنوات ، و مرة اخرى يضيف غراهام قائلا : كان منحني هذه الإشارة يصعد ويهبط بشكل سلس كمنحني التابع الجيبي. ولم يتم رصد ذلك في الكوازارات من قبل.

كان الفريق حذراً من القفز الى الاستنتاجات مباشرة ، و اضاف المؤلف المشارك ( Eilat Glikman ) أستاذ الفيزياء المساعد في كلية ميدلبري في ولاية فيرمونت : اننا نقترب من الوصول الى النتائج مع الشك الذي تتخلله الإثارة ايضا . فالإشارات الدورية التي كان يراها العلماء كان من الممكن أن تكون حالة مؤقتة للإشارات العشوائية ، و لكن لاستبعاد ذلك قام العلماء بجمع البيانات حول الكوازر من استطلاعات سابقة بالاضافة لتحليلهم ، و بعد تسجيل هذه المشاهدات التاريخية ( امتلك العلماء ما يقارب 20 سنة من البيانات المجموعة حول كوازر PG 1302-102 ). و الاشارات المكررة كانت موجودة مما شجع على بقاء الاستنتاج وارداً.

ازدادت ثقة الفريق أكتر بعدما قام Glikman بتحليل البيانات الناتجة عن طيف الضوء الناتج من الكوازار. الثقوب السوداء (والتي يعتقد العلماء أنها المحرك الأساسي في الكوازارات) لا تشع الضوء ، ولكن الغازات الموجودة في القرص المحيط بها تدور بسرعة كبيرة بحيث تصبح ساخنة و تتحول الى بلازما متوهجة . يقول Glikman: عندما تنظر إلى خطوط الانبعاث** لطيف أي جسم ، ما تراه حقا هو المعلومات عن السرعة، وعما اذا كان الشيء يتحرك باتجاهك أو مبتعداً عنك وبأي سرعة. ذلك هو هو تأثير دوبلر. في الكوازارات ، يحتوي الطيف الصادر على خط واحد يكون بشكل منحنى متناظر (يعبر عن سرعة معينة لدوران القرص). و لكن في هذا الكوازار كان من الضروري اضافة خط انبعاث ثاني يرجع لسرعة مختلفة قليلا عن الخط الاول وذلك لتتناسب الحسابات مع البيانات، مما يقترح وجود شيء آخر كثقبٍ أسود ثانٍ يسبب إضطراب هذا النظام.

يتفق آفي لوب اللذي يرأس قسم الفلك في جامعة هارفارد على تقييم الفريق أن ثقبين أسودين هائلي الكتلة على مسافة قريبة جداً من بعضهما هو التفسير الأكثر احتمالاً للاشارات الدورية التي يرونها . و قال لوب الذي لم يشارك في الدراسة : تشير الأدلة أن الانبعاثات تصدر من منطقة في الجوار القريب جداً حول الثقب الأسود و أن سرعة المواد الباعثة التي تدور في تلك المنطقة لا يقل عن عُشر سرعة الضوء . افتراض وجود ثقب أسود ثانوي سيكون أبسط طريقة لإضافة تغير دوري في الطيف المنبعث من تلك المنطقة ، و ذلك لأن جسماً أقلّ كثافةً كتجمع نجميّ مثلا ستتبعثر بفعل الجاذبية القوية من الثقب الأسود الأساسي.

بالاضافة إلى تقديم لمحة غير مسبوقة عن المراحل النهائية لاندماج الثقب الاسود فهذا الاكتشاف أيضاً هو شهادة على قوة علم البيانات الكبيرة . فالتحدي لا يكمن فقط في جمع المعلومات عالية الجودة ولكن أيضا في ابتكار طرق للتنقيب في هذه البيانات عن معلومات مفيدة . ويقول Sterl Phinney أستاذ الفيزياء النظرية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا : نحن فعليا ننتقل من مرحلة امتلاكنا لعدة صور للسماء كاملة أو امتلاك أرصاد مكررة لمناطق صغيرة من السماء إلى امتلاك فيلم عن السماء كاملةً. قد لا تبدو معظم الأجسام الظاهرة في الفيلم مثيرة للاهتمام ولكن من ناحية أخرى سيكون هناك العديد من الأجسام المثيرة لاهتمامنا والتي أغفلنا مراقبتها سابقاً. لا تزال الآلية الفيزيائية المسؤولة عن تكرار إشارة ضوء الكوازار غير واضحة بعد. أحد الاحتمالات كما يشرح غراهام هي أن الكوازار يقوم يطلق قسماً المواد من القرص المحيط به إلى دفقتين متماثلتين من البلازما المضيئة تدوران كالضوء المنبعث من منارة.

و الاحتمال الاخر هو أن قرص الغاز والمواد المحيط بالثقوب السوداء غير منتظم. فإذا كانت أحد المناطق أكثر كثافة من بقية القرص فبالتالي عند دوران هذا القسم سيحجب قسما من الضوء الصادر عن الكوازار خلال فترات زمنية دورية.مما يفسر التكرارية الدورية للإشارة التي يستقبلها الفريق كما يشرح غراهام. ومع ذلك توجد فرضية أخرى أن شيئا ما يجعل القرص المحيط بالثقب الأسود يدفع بكميات من مواده بشكل دوري نحو الثقب الأسود مما يؤدي لهذه الانفجارات أو الزيادات الدورية التي نرصدها من الأشعة.

وعن هذه الاحتمالات يقول غراهام: مع أن هناك العديد من الاليات الفيزيائية المحتملة لتفسير دورية انفجارات الأشعة التي نراها فلازالت هذه الآليات بشكل أساسي ناشئة عن وجود نظام ثنائي (ثقبين أسودين).

* الفرسخ النجمي: هو واحدة لقياس المسافات الفلكية يعادل 3.32 سنة ضوئية

** طيف الإنبعاث لعنصر ما: عند تسخين مادة ما فوق درجة حرارة معينة تُصدر إشعاعاً كهرطيسياً عند طول موجي معين. فمثلا في المطبخ عندما تنثر قليلا من ملح الطعام على النار تشاهد اللهب يصبح أصفر اللون لأن أحد خطوط طيف الانبعاث الخاصة بالصوديوم الموجود في الملح يقع في مجال الضوء الأصفر.

المصدر: هنا