علم النفس > القاعدة المعرفية

عالم الحس المرافق!

الحس المرافق 'Synaesthesia'- هي حالة عصبية تتمثل بالمزج بين الحواس المختلفة، بحيث بالإمكان أن ترتبط الألوان بالحروف والأرقام، وأن ترتبط الرائحة والمذاق بالموسيقى، وأن يرتبط الملمس بالبصر. لطالما كانت هذه الحالة ذات صلة بالإبداع؛ فمن بعض المشاهير المحظوظين بها: الموسيقي 'Jean Sibelius'، و 'Pharrell Williams'، إلا أن هذه الحالة ظلت غامضة على نطاق واسع، وذلك على الرغم أنها موجودة بأنماطها المختلفة لدى 4.4% من البالغين على الأقل.

قد "يرى" الشخص أيام الأسبوع أو الأرقام والكلمات ذات ألوان معينة، وهذا الأمر يحدث عندما تكون الحالة من نمط يربط الألوان بالحروف. أما بالنسبة لحالة ترتبط فيها المفردات اللغوية بالتذوق؛ فإن الشخص سيشعر بطعم معين عندما يسمع كلمات معينة. وسوف يشم الشخص روائح محددة حين يرى الأشكال والتحركات والألوان، وهذا في حالة ترتبط فيها حاسة الشم بالبصر والأماكن. رغم أن العلماء يعرفون بوجود حالة الحس المرافق منذ 200 سنة؛ لكن دراسة حدود الوظائف الإدراكية للأشخاص بهذه الحالة -وبالتحديد- ما هم قادرون على إعطائه للأشخاص الآخرين "العاديين"؛ هو أمر اهتم العلماء به حديثاً فقط.

تقول Dr. Julia Simner أنها تبحث في هذا المجال منذ زمن، وقد توصلت مع فريقها إلى الاختبار الأول من نوعه والذي بإمكانه كشف هذه الحالة لدى الأطفال. وتتعاون Simner وفريقها مع الباحثين في Max Planck Institute من أجل التوصل إلى معرفة الجينات المعنية بحالة الحس المرافق، حيث تظهر هذه الحالة عادة ضمن العائلات.

في الماضي؛ كان 96% من الناس يجدون صعوبة في تصديق وجود شيء كهذا، أما الآن وقد أُزيح العبء الملقى على عاتق العلماء لإثبات وجود هذه الحالة؛ فقد أصبح بمقدورهم النظر في مكنوناتها بحرية، ناهيك عن تقدم تقنيات التصوير الدماغي في الوقت الحاضر. إن كيفية تأثير حالة الحس المرافق على تطور الطفل هي واحدة من اتجاهات البحوث الحديثة في هذا المجال. إلى أي مدى سيتأثر الإدراك بوجود حالة كهذه؟ وما هو تأثيرها على المهارات ونقاط الضعف الموجودة؟ تطمح الأبحاث إلى إيجاد الفوائد المكتسبة من هذه الحالة كما تسعى لإيجاد المساوئ، وذلك لمعرفة مدى إمكانية استخدام مزج الحواس لمساعدة الطفل العادي في التعلم.

في السابق، كان التركيز منصبا على تجربة الحس المرافق بحد ذاتها، إلا أن التساؤل حول المزيد مما يكمن خلف هذه الظاهرة هو محط اهتمام في الوقت الحاضر، حيث أن الفهم الكامل لكيفية تطور الحالة لدى الأطفال سيكون محور الاهتمام في البحوث المستقبلية والمفتاح لإدراك أشمل للحالة. يرى Dr Nicolas Rothen –وهو يعمل على بحث عن الحس المرافق والذاكرة في جامعة University of Sussex- أن الناس مختلفون، وأن علينا أخذ هذا الاختلاف بعين الاعتبار، ولذلك فإن حالة الحس المرافق هي طريقة جيدة لدراسة الاختلافات في الفهم وعلاقة هذه الاختلافات بالوظائف الإدراكية كالذاكرة والمعالجة اللغوية. وبينما يهتم العلماء بدراسة الاختلاف بين أدمغة الناس من ذوي الحالة وبين أدمغة الناس الآخرين؛ فهم يسعون أيضا لمعرفة كيفية التقريب بين الاثنين، ليس أن أصحاب هذه الحالة هم طبقة مختلفة من الناس؛ لكنهم خاضوا تجاربا أكثر اتساعا، والأمور في منظورهم هي أكثر تجليا. لو سألت شخصا عاديا: "ما هو لون الحرف A؟" سيبدو السؤال محيرا، إلا أن شخصا لديه حالة الحس المرافق لن يجد صعوبة في الإجابة.

الأمر فقط هو أن هؤلاء الأشخاص أكثر تبصرا بأمور نتشاركها جميعا، فلو أصررت على أن تحصل على إجابة لهذا السؤال؛ فجميعنا سنربط الألوان الساطعة بالحروف الأكثر استخداما، أو سنربط الألوان الفاتحة بنغمات ذات طبقة مرتفعة.

تهدف الدراسات -كتلك التي تقوم بها Dr. Clare Jonas في جامعة University of East London- إلى تطوير العلاقة بين ذوي الحالة وبين الناس العاديين، وذلك عن طريق تدريب الناس العاديين على حمل ما يمتلكه ذوو الحالة، والقيام بعد ذلك بتقييم الأثر الحادث على الذاكرة والوظائف الإدراكية.

تم إخضاع مجموعة صغيرة من الشباب لربط حروف معينة بألون معينة، وبعد ذلك، لجأ الباحثون إلى اختبار الكلمات لكشف فيما إن كان بإمكانهم تذكر الكلمات بسهولة أكبر عندما تم تلوينها بشكل موافق لما جاء في التدريب.

تشير النتائج حتى الآن إلى أن ذلك الأمر ممكن، حيث قيّم الباحثون ذاكرة الخاضعين للتجربة قبل التدريب وبعده، وذلك بجعلهم ينظرون لمجموعة من الكلمات تحتوي على كلمة مخالفة، إما في معناها أو بكونها مكتوبة باللون الذي اعتادوا على ربطها به في أثناء التدريب. وبالاعتماد على توقعات مبنية على ما يفعله ذوو الحالة الحقيقيون؛ بدا أن أولئك الذين تلقّوا التدريب يميلون للتصرف كالأشخاص ذوي الحالة، بأي بذاكرة أفضل تجاه أشياء تتأثر بحالة الحس المرافق، وهذه علامة جيدة بالطبع في حال تم تأكيدها.

يميل ذوو الحالة إلى تذكر الكلمات المخالفة بشكل أسهل إذا كانت الكلمات بلونها الصحيح، بينما يكون أداؤهم أسوأ في الاختبارات عندما تكون الكلمات المخالفة مخالفة في المعنى، أي كمجموعة كلمات تحتوي على (مصفاة، خفاقة، سباتول، وباليه) على سبيل المثال. يجد الباحثون هذا الأمر مثيرا للاهتمام بحد ذاته، فالوصول إلى المعنى هو المفتاح لتحسين الأداء في هذا النوع من ألعاب الذاكرة.

على الرغم من أن البحث لا يزال في مراحله الأولى؛ إلا أن Jonas تؤمن بأن تدريب الحس المرافق قد يكون ذا أثر في مساعدة الكبار لمنع التراجع في الوظائف الإدراكية في المراحل المبكرة من مرض الزهايمر، أو حتى في مساعدة المرضى على التعافي من الأذيات الدماغية. أحد الأمور الممكنة أيضا هو الوقاية من تراجع الوظائف الإدراكية لدى الكبار عن طريق استخدام حالة الحس المرافق في صنع فن التذكّر (Mnemonics)*.

وطالما توجد قدرة إدراكية كافية؛ قد يستطيع الناس أن يبدؤوا التدريب في الخمسينات من العمر كوسيلة لتجديد مهارات الذاكرة.

إحدى العقبات الموجودة حاليا هو أن حفظ المفردات وألوانها الموافقة الذي يتطلبه التدريب هو أمر مضجر نوعا ما ويستهلك الكثير من الوقت، إلا أن الباحثين في هولندا قد وجدوا طريقة للتغلب على ذلك عن طريق تطوير متصفح يقوم بتلوين مفردات معينة بشكل أوتوماتيكي، وهذا الأمر هو جزء من دراسة أوسع حول إمكانية تعلّم الحس المرافق.

وبينما تُظهر الدراسات إمكانية تدريب الناس العاديين على قدرة الربط الموجودة لدى ذوي الحالة؛ إلا أن إمكانية استثارة هذه الظاهرة أو الطريقة التي سيرى بها ذوو الحالة ما تبدو عليه ألوان الحروف -سواء في مخيلتهم او على الورق- هو أمر ليس واضحا بعد. نحن نعلم أن الحالة تأتي ببعض الفوائد، وأن بالإمكان تعليم بعض جوانبها. "ما لا نعلمه هو الجانب الذي سيقود للفائدة: قدرة الربط التلقائي أو تجربة الظاهرة" يقول Rothen. لكنه يضيف: "لدينا بعض الإشارات التي تفيد أن الحالة تقود إلى تعزيز الأداء فيما يتعلق بالذاكرة والتصوير الذهني البصري".

إن إحدى حالات الحس المرافق المثيرة للاهتمام هي ما يسمى بـ"لمسة المرآة-Mirror Touch" والتي يحدث فيها أن مجرد مشاهدة شخص ما يتعرض وجهه للمس سيحرض لدى ذوي هذه الحالة شعورا بأن أحدا ما قام بلمس وجههم أيضا. إن البحث في هذا المجال قد يكشف عن نتائج مثيرة للاهتمام حول ما يسبب ردات الفعل المتعلقة بالحس المرافق، كما سيكشف الطرق الممكنة لاستخدامها لدى الناس العاديين.

عند استخدام تقنيات تصوير الدماغ؛ يمكن مشاهدة المناطق الدماغية التي تتحفز عن شخص تعرض وجهه للمس، في الواقع، تتحفز ذات المناطق عند أشخاص من ذوي حالة لمسة المرآة عند مشاهدة شخص يتعرض وجهه للمس، أي أنهم يعيشون ما يرونه حرفيا. وفي هذا الصدد؛ أصبحت هذه الحالة محط الاهتمام، فهي تزودنا بطريقة فريدة عن كيفية رؤيتنا الذاتية لتجارب الآخرين.

إن تطور حالة الحس المرافق في الدماغ هو أمر مثير للاهتمام، وبالتحديد، كيفية قيام ما يسمى بـ"الاستثارة المفرطة hyper-excitability" لمناطق معينة في الدماغ مثل القشرة الحسية الجسدية somatosensory cortex بإحداث حالة الحس المرافق. ففي هذه الحالة؛ يكون التوازن غير اعتيادي بين الاستثارة والتثبيط، وهكذا فإن السؤال هو: هل بالإمكان استحداث هذه الحالة عند الناس العاديين عن طريق التلاعب بهذا التوازن؟ يعرف العلماء أن بالإمكان قلب هذا التوازن عن طريق التنويم المغناطيسي أوالعقاقير. LSD على سبيل المثال (عقار مهلوس وهو ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك) يؤدي إلى حالة شبيهة بحالة الحس المرافق. لكن الأمر بحاجة للمزيد من الأبحاث من أجل إيجاد طرق أخرى.

بالإمكان استخدام تقنيات تصوير الدماغ لتحديد المناطق الدماغية المرتبطة بالحالة، إلا أن المسببات لا تزال مجهولة، ولمعرفة ذلك، نحن بحاجة لأن نُحدث تعديلا على المناطق المعنية حتى نستطيع رؤية أثر ذلك على استحداث تجربة الحس المرافق.

من الواضح أن هذه الحالة مفيدة لأصحابها في بعض الطرق، وسيكون الأمر جميلا لو استطعنا إيجاد طريقة لمنح الأجزاء المفيدة منها لأولئك الذين لا يملكونها.

الهامش: *فن التذكر Mnemonics: تقنية لحفظ المعلومات تقوم على ربط الأشياء المراد تذكرها و حفظها بأشياء يسهل تذكرها ذهنيا، على سبيل المثال، يشير الحرف الأول من كل كلمة في الجملة التالية إلى أسماء كواكب المجموعة الشمسية My Very Educated Mother Just Served Us Nine Pizzas.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

مصدر الصور:

هنا