الاقتصاد والعلوم الإدارية > ما هي النقود؟

ماهي النقود؟ الحلقة الثانية (سرقة الأمم)

يُحكى يا سادة يا كرام أنه في سالف العصور والأزمان في مكان ما خلف المحيطات والصحاري الشاسعة كان هناك جزيرتان نائيتان متجاورتان يستوطنهما شعبان من أطيب شعوب العالم وأكثرها تعاونًا ومحبة، فكانت الجزيرة الأولى تسمى (نايا) ويسكنها قبيلة تعرف باسم (سوكو)، بينما يطلق على الجزيرة الثانية اسم (بايا) وتقطنها قبيلة تسمى (توكو). 

وكانت جزيرة نايا مليئة بالخضرة والثمار الإستوائية، والأنهار العذبة التي كانت مصدرًا للمياه المنعشة، والشلالات التي كانت تعد مكانًا رائعًا للاستجمام، حتى أن الشواطئ المحيطة بالجزيرة كانت نظيفة جدًّا وغنية بالثروة السمكية، إضافة إلى هذا فإن الجزيرة كانت غنية بالذهب الذي كان يستخدمه زعيم القبيلة ساكا لصك النقود الذهبية التي تسهل عملية التبادل التجاري بين أفراد القبيلة، وكانت النساء يستخدمنه للزينة.

وكان سكان الجزيرة يعيشون حياة بسيطة مليئة بالتعاون والمحبة، فلا مكان للشجع ولا الطمع، ولا مكان للقروض الربوية التي ترهق كاهل المدينين بالفوائد المتراكمة، بل كانوا متسامحين ومتعاونين ومتحابين.

أما في الجهة المقابلة لجزيرة نايا كانت تقع جزيرة بايا التي تقطنها قبيلة توكو التي يعمل بعض أفرادها في زراعة الأرز وتربية الدواجن والماشية، بينما يعمل البعض الأخر في الحرف اليدوية والصناعات المختلفة.

وكانت حياة أفراد قبيلة التوكو أيضًا مليئة بالتعاون والتسامح، لكن قبيلة التوكو كانت تعتمد على نظام المقايضة في تبادل المنتجات فيما بينهم مما جعلهم أقل تقدمًا من جيرانهم قبيلة السوكو؛ إذ إنه على الرغم من حدوث العديد من عمليات المقايضة بين الجزيرتين إلا أن التوكو لم يخطر ببالهم يومًا أن يستخدموا النقود لتسهيل عمليات التبادل التجاري. 

وفي يوم من أيام الصيف الدافئة، وصل رجلان غريبان إلى شواطئ جزيرة نايا على قارب خشبي، يدعى الأول (جاجو) بينما الثاني يسمى بـ (ساجو)، استقبل أفراد السوكو الضيفين الغريبين بكرم وسخاء مبالغٍ فيه، فسرد جاجو وساجو الكثير من القصص والمغامرات التي مرا بها في رحلتهما، وقد عرضوا على أفراد القبيلة عملات مختلفة ذهبية وورقية تستخدها بلدان مختلفة حول العالم، وكانت هذه المرة الأولى التي يرى فيها أفراد السوكو العملة الورقية مما جعلهم ينبهرون بشكلها خصوصًا وأن عليها صورة فاكهتهم المفضلة (الموز)، وقد عرض جاجو وساجو على أفراد القبيلة آلة طباعة النقود مما زاد من دهشتهم، فأحب أفراد قبيلة السوكو الضيفين وطلبوا منهما البقاء على الجزيرة ومشاركتهم الحياة فيها.

حاول جاجو وساجو بداية إقناع أفراد قبيلة السوكو بأهمية نظام الوساطة المالية (البنك) وأثره في حياتهم وفي اقتصادها ، ثم اقترحا إنشاء بنك على الجزيرة وذلك حتى يعم النفع عليهم جميعًا؛ إذ إن البنك سيزيد من مستوى التعاون بين أفراد القبيلة فهو سيحتفظ بالذهب الذي في حوزة الأهالي ويوفر السيولة اللازمة لمن يحتاجها، لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى اقتنع سكان جزيرة النايا بفكرة البنك وذلك اعتقادًا منهم أنها فكرة جيدة لمساعدة الآخرين، فأنشأ جاجو وساجو بناءً صغيرًا ذا قبو، يتوسطه خزنة لحفظ الذهب، وبذلك أنشأ الإثنان أول بنك على جزيرة النايا.

ثم احتفل سكان الجزيرة بهذه المناسبة ليال عديدة أودع فيها السكان ما بحوزتهم من ذهب في البنك، وحصل المودعون على أوراق نقدية ملونة طبع عليها صورة زعيمهم ساكا وخلفه شجرة الموز (ورقة نقدية واحدة مقابل كل قطعة ذهب يودعونها) على أن تكون الأوراق النقدية قابلة للتحويل إلى ذهب مرة ثانية في حالة رغبة المودع بهذا.

أودع السكان كافة القطع الذهبية التي كانت في حوزتهم (مئة ألف قطعة ذهبية) لدى البنك، وحصلوا على مئة ألف ورقة نقدية.

استخدم الناس النقود الورقية فوجدوها تمتاز بخفة وزنها وسهولة حملها مقارنة بالقطع الذهبية، مما جعل الأوراق النقدية التي أُصدِرت من قبل جاجو وساجو هي العملة السائدة المستخدمة في الجزيرة؛ إذ قلما تجد أحدًا يتداول القطع الذهبية، فكان الناس سعداء جدًّا بهذه الأوراق النقدية، وكانت ثقتهم قوية بها إذ كلما ذهب أحدهم إلى البنك ليحصل على بعض القطع الذهبية مقابل الأوراق النقدية، فإن طلبه كان يجاب بسرعة، مما جعل لجاجو وساجو احترامًا كبيرًا وهيبةً لدى السكان. 

وسمع سكان الجزيرة المقابلة (جزيرة البايا) عن الأوراق النقدية التي يطبعها جاجو وساجو لجيرانهم في الجزيرة المجاورة، وسمعوا عن أثرها في معيشة الناس وكيف أنها جعلت حياتهم أكثر راحة وسهولة، مما جعل أفراد التوكو يطلبون مساعدة جاجو وساجو للحصول على أوراق نقدية أيضًا، ولم يتردد جاجو وساجو بمساعدة التوكو للحصول على ما يريدون، فعمدا إلى إنشاء مبنى (بنك) مماثل للمبنى الموجود في الجزيرة المجاورة وبدأ ساجو بإدارة البنك، فكان الفرق بين الجزيرتين هو أن التوكو لم يكن لديهم أي قطع ذهبية لإيداعها لدى البنك على عكس السوكو، مما جعل ساجو يشترط على أفراد التوكو أنه مقابل كل ألف ورقة نقدية تعطى لكل عائلة يجب إعادة ألف ومئة ورقة في نهاية السنة (زيادة الـ 10% لتغطية رسوم الخدمة المقدمة). وافق التوكو على شرط ساجو وبدأت طباعة الأوراق النقدية، كان يسكن الجزيرة مئة عائلة مما يعني طباعة مئة ألف ورقة، فأحس التوكو بالفرق الكبير مع وجود الأوراق النقدية، فصارت تبادلاتهم التجارية أكثر سهولة وكفاءة مقارنةً بنظام المقايضة الذي يعمل به سابقًا؛ إذ صاروا يقضون وقتًا أقصر في البحث عمن يبيعون ويشترون منه، وصار بإمكانهم التخصص بالمهن التي يتقنونها، بالمقابل فإن اقتصادهم بدأ ينمو بسرعة أكبر مما كان عليه سابقًا. 

الآن حانت اللحظة الحاسمة ليطبق جاجو وساجو خطتهم لبسط سيطرتهم ونفوذهم على الجزيرتين، إذ إنه بناءً على ما لاحظاه فإن سكان جزيرة نايا (السوكو) لا يستبدلون أكثر من 10% من القطع الذهبية التي في خزينة البنك، مما يعني أن 90% من القطع الذهبية تبقى دائمًا موجودة في خزينة البنك، مما يعني أن بإمكانهم طباعة المزيد من الأوراق النقدية من غير أن يلاحظ أفراد قبيلة السوكو ذلك، فطبع الإثنان 900,000 ورقة نقدية وضخها بصورة قروض لمن يحتاج من السوكو مقابل فائدة وقدرها 15% من قيمة القرض، مما يعني وجود مليون ورقة نقدية موجودة في أيدي السوكو، فلو طلب أفراد السوكو بقطعهم الذهبية مقابل ما بأيديهم من أوراق نقدية فإن المئة ألف قطعة ذهبية التي تشكل 10% من كمية الأوراق النقدية المتداولة موجودة في خزانة البنك وهي جاهزة للاستبدال. (بهذه الطريقة يُقرِض البنك الناس، فتُخلَق النقود من ودائع الناس فالألف يتولد عنها آلاف). 

لاحظ أفراد السوكو ارتفاع الأسعار المفاجئ من غير أن يعرفوا السبب، فبعض الذين استدانوا النقود من جاجو وساجو تعثروا في السداد رغم عملهم بجد لتأمين الـ 15% (الفوائد)، مما جعل حياة السوكو مليئة بالضغوط النفسية، فالكل يريد أن يجني الأوراق النقدية ليسدد ما اقترضه أو ليحسن مستوى معيشته خصوصًا مع ارتفاع الأسعار، (يجب ملاحظة أن الفوائد على النقود التي أُقرضَت غير موجودة أصلًا في الواقع، إن أُقرِض للسوكو هو 900,000 مقابل فائدة وقدرها 15%، مما يعني أن ما يجب على أفراد السوكو رده هو 900,000+ 135,000= 1,035,000 ورقة نقدية، لكن الكمية المعروضة من النقود هي فقط مليون قطعة مما يعني أن 35,000 ورقة نقدية غير موجودة، فكيف ستُسَدد؟؟ لابد أن يتعثر بعض أفراد السوكو). 

في المقابل فإن أفراد التوكو لم يلحظوا زيادة في الأسعار، لكن تعاملاتهم فيما بينهم تغيرت، فظهر بينهم الجشع والطمع، فالكل يريد العمل بكل طاقته للحصول على المال الكافي لسداد ديونه للبنك، على الرغم من كل هذا فإن بعضهم كان يتعثر عن سداد دينه. 

الآن بدأ جاجو وساجو يجنيان الثروة الحقيقة من المتعثرين كالأراضي، والمواشي وغير ذلك، حتى أن قائد قبيلة التوكو (تاكا) تعثر في قرضه مما جعل البنك يعيد جدولة الدين وإعطائه قرضًا جديدًا لتسيير أعماله، لكنه تعثر مرات ومرات حتى صار لا يستطيع النظر في عيون ساجو، فصار يتحاشى لقاء ساجو، فيومًا عن يوم صار يفقد هيبته ومكانته في الجزيرة مقابل ساجو الذي بدأ يزداد ثراءً وهيبةً يومًا بعد يوم. 

وبعد عدة سنوات أصبح جاجو وساجو (الضيفان اللذان جاءا إلى جزيرة نايا مع آلة طباعة النقود) يملكان معظم الأراضي والممتلكات في جزيرتي نايا وبايا، وتحول أفراد القبيلتين إلى مجرد عمال لديهما، وصار الكثير منهم فقراء، ويعملون لساعات طويلة للحصول على لقمة العيش، ولم يعد لديهم وقت كاف للعائلة والأصدقاء أو حتى للعبادة، حتى أن المشاكل الاجتماعية والجرائم بدأت بالانتشار فيما بينهم، وتحول مجتمعهم اللطيف إلى مجتمع متوحش، يأكل بعضهم حقوق بعض من أجل البقاء على قيد الحياة، فهكذا كانت نهاية قصة السوكو والتاكا القبيلتان اللتان عاشتا في إلفة وتعاون ومحبة قبل قدوم البنك إلى أرضهما. 

ولم يتوقف جاجو وساجو عن عملهما، بل استمر الإثنان على نفس المنوال منتقلين من بلد إلى آخر، ومن مجتمع إلى مجتمع، ساعين لتحقيق حلمهم الأكبر وهو السيطرة على العالم كله، وذلك عن طريق إنشاء بنك عالمي يديرانه، إضافة إلى استصدار عملة ورقية موحدة تجمع كل بلدان العالم. 

المصدر:

قراءة في كتاب

The theft of Nations: Returning to Gold 

Prof. Ahmed Kameel Mydin Meera