الرياضيات > الرياضيات

لماذا يهتم علماء الرياضيات بالألعاب؟

لماذا يهتم علماء الرياضيات بالألعاب؟ الإجابة الأسهل على هذا السؤال هي: للتسلية، تماماً كباقي البشر، دون أن نتناسى طبعاً أن تفوقهم في الرياضيات يجعلهم أكثر قدرة على اللعب بالعديد من الألعاب الصعبة، كالشطرنج مثلاً.

أما الحقيقة فهي أن علماء الرياضيات يهتمون بالألعاب لأن طريقة اللعب مرتبطة جداً بسلوك اللاعب الحياتي، بل وتساعد في فهم الكثير من سلوكيات البشر وسائر المخلوقات. وقد تم تطوير حقل كامل في الرياضيات أطلق عليه نظرية الألعاب وهدفه إلقاء بعض الضوء على سلوكياتنا وخاصة فيما يتعلق بطرق اتخاذ القرارات.

لتوضيح الفكرة دعونا ننظر إلى المثال التالي: بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي لتتسابق كلا الدولتين في بناء ترسانتها من السلاح النووي لحماية نفسها من الأخرى، وانتهى هذا السباق بأن جمعت الدولتان كمية من الأسلحة النووية كفيلة بتدمير معظم كوكب الأرض. لا شك وأنه وضع مثير للسخرية، فقد أمضت الدولتان زمن طويل في جمع سلاح سيؤدي استخدامه إلى إنهاء جميع أشكال الحياة التي نعرفها ورغم ذلك لن تتجرأ أي منهما على التخلص من هذا السلاح، لضمان مستوى تفوقها على الأخرى دون التفكير بالتبعات التي قد تنتج عن أي حادث نووي. والسؤال المطروح هنا كيف فكر قادة البلدين وكيف اتخذوا قراراتهم لإنهاء هذه الفوضى والعالم يترنح على حافة الهاوية؟

للإجابة على هذا السؤال دعنا عزيزي القارئ نفترض "اللعبة" التالية:

أنا رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وأنت رئيس الاتحاد السوفيتي، ولعبتنا هي قرار إنتاج المزيد من الأسلحة النووية أو قرار عدم الإنتاج، واللعب يتم في وقت واحد ودون أن يعلم أي منّا ماهي خطوات الطرف الآخر في اللعب.

نحن الآن أمام الاحتمالات التالية:

إذا أنتجت أنا المزيد من الأسلحة النووية وأنت لم تفعل سأفوز أنا وتخسر أنت (لأني بطبيعة الحال سأكون الأقوى)، وفي هذه الحال سأحصل أنا على ثلاث نقاط بينما لن تحصل أنت على أي نقطة، وستكون النتيجة عكسية فيما لو قررت أنت إنتاج المزيد وأنا لم أفعل.

أما إذا أنتجت أنا المزيد من الأسلحة النووية وكذلك فعلت أنت سنتعادل في نهاية اللعبة ويحصل كل منا على نقطة واحدة.

وفي حال قررت أنا عدم إنتاج المزيد من الأسلحة النووية وأنت أيضاً لم تنتج المزيد سننتهي بتعادل آخر وسيحصل كل منّا على نقطتين (نقاط أكثر لأن نتائج هذا الاختيار أكثر إيجابية على الحياة بشكل عام).

لننتقل الآن إلى تحليل هذه الخيارات: إن التفكير في النقاط يجعلني أدرك أن أفضل خيار لي هو إنتاج المزيد من الأسلحة النووية بغض النظر عمّا يمكن أن يكون قرارك أنت ولماذا؟

لأنه في هذه الحالة سأحصل على ثلاث نقاط وأفوز إذا لم تنتج أنت المزيد، أو سأتعادل معك وأنال نقطة إذا أنت اتخذت نفس القرار، وهذا بطبيعة الحال أفضل من الصفر الذي قد أحصل عليه من المغامرة للحصول على نقطتين غير مضمونتين في حال قررت أنا عدم الإنتاج منتظراً نفس القرار منك.

باختصار إن قراري بإنتاج المزيد من السلاح النووي هو الاستراتيجية الأفضل لي وذلك بغض النظر عمّا يمكن أن يكون قرارك. وبمنطق مشابه ستصل أنت إلى نفس النتيجة وهي أن أفضل خطوة هي إنتاج المزيد من الأسلحة النووية.

والنتيجة أن اللعبة ستنتهي مع ترسانة متزايدة من الأسلحة النووية، وهنا المفارقة الغريبة في أن أفضل تحركاتنا في اللعب لاتؤدي بالضرورة إلى نتائج أفضل.

طبعاً في سباق التسلح الحقيقي لن يحصل السياسيون على نقاط، ولكن سيحققون تبعاً لمنطقهم ما هو أفضل لبلادهم، وهو في هذه الحال الحفاظ على زيادة ترسانتهم النووية.

من الألعاب الشهيرة في نظرية الألعاب لعبة تدعى معضلة السجين، وتقوم اللعبة على سجينين أمامهما خياران: إما أن يتعاونا معاً أو أن يسلم أحدهما الآخر للشرطة. صحيح أن هذه اللعبة بعيدة عن الواقع، حيث يمكن إيجاد إمكانيات أخرى للتفاوض ليكون كلا الطرفين بمأمن من التهلكة. إلا أن محاكاة الحالات الواقعية المعقدة من خلال ألعاب بسيطة غير ممكن.

هذا تماماً ما تفعله نظرية الألعاب، حيث تلتقط الحالات الواقعية وتحاكيها من خلال ألعاب بقواعد محددة، ثم يقوم علماء الرياضيات بإيجاد الاستراتيجيات التي يمكن للاعبين أن يتبعوها بعقلانية لتحقيق مكاسبهم الخاصة. وهذا هو النهج الذي استخدمه علماء الرياضيات لفهم الاقتصاد وكيفية تفاعل الناس لزيادة أموالهم، وهو النهج الذي استخدموه علماء النفس أيضاً لتفسير التغيرات التي تطرأ على الشخصيات، وكذلك هو ذات النهج الذي استخدمه علم البيولوجيا لتفسير سلوك الحيوانات وسائر الكائنات الحية.

بالطبع إذا ماشعرنا أن لعبة ما بسيطة فيمكن جعلها أكثر واقعية بجعلها أكثر تعقيداً، أضف إلى ذلك أنه على سبيل المثال عندما يعتاد شخصان على اللعب معاً مراراً بلعبة معضلة السجين فإنه سيصبح من السهل على أحدهما تذكر الاستراتيجية التي يلعب بها الخصم، وبالتالي يرسم خطواته اعتماداً على ثقته بمعرفة اللاعب الآخر. بهذه الطريقة يمكن تفسير لماذا نحن البشر وسائر الحيوانات أصبحنا أكثر قدرة وأكثر رغبة بأن نكون أكثر لطفاً مع الآخرين حتى لو لم يترتب على ذلك ربح فوري.

من كل ما سبق، يمكن لعين الرياضيات الباردة أن تفسر وتشرح الاشياء الغامضة والدافئة كاللطف البشري.

المصدر :

هنا