علم النفس > المنوعات وعلم النفس الحديث

الممارسة لا تكافئ النجاح دوماً.

استمع على ساوندكلاود 🎧

لطالما تلهفنا لتصديق الفكرة القائلة بأنّ الجهد المبذول في مهارة ما هو السبب الأساسي لإتقانها، فالممارسة المكثفة هي التفسير الأكثر منطقية لدينا، ليس للنجاح على مختلف الأصعدة فحسب؛ بل للنبوغ أيضا، كان هذا ما قاله عالم النفس 'B Watson John' منذ قرن مضى.

في العام 1990، عرض إيركسن 'K. Anders Ericsson' وزملاؤه من جامعة 'Florida State University' معلوماتٍ بدت أنها تؤيد التالي: "إن ما يصنع الفرق بين الخبير والهاوي، بين موسيقي أو لاعب شطرنج من الطراز الأول وطامح لا يمتلك المؤهلات الكافية؛ هو ليس الموهبة، وإنما آلاف الساعات من العمل".

وقد أعلن 'Gladwell Malcolm' مقتبساً عن بحث إيركسن لكن مشوهاً له –الأمر الذي أدى إلى إفزاع الأخير- أن الرقم السحري هو 10 آلاف ساعة!

إن مجرد تصوّر الخضوع لالتزام كهذا هو أمر شاق، وعلى الرغم من ذلك فلا تزال فكرة كون الممارسة هي المساهم الأساسي للإتقان تبعث على الراحة. وهذا -أي ارتياح الناس لهذه الفكرة- باعتقاد 'Alfie Kohn' يعود لأسباب ثلاثة:

• السبب الأول هو أن الفكرة منطقية: حيث تبدو فكرة أنه كلما قضيت وقتاً تفعل شيئاً ستصبح أفضل به منطقيةً جداً عند الوهلة الأولى، وهذا ما جعل المدرسين يستخدمون التعبير القديم "Time on Task" كأسلوب تدريسي، حيث يشير هذا التعبير إلى الوقت الذي يمضيه المتعلم في التعلّم، وإلى أنّ التعلم يعتمد على الوقت، ولكن عندما يتّم التركيز على عمليّة فهم ما يُقرأ مثلاً هنا لن يأتي التعبير السابق بنتائج مهمّة.

• السبب الثاني هو أخلاق العمل: لا يحبذ الناس فكرة أنه يمكن لأحدهم أن ينال شيئاً دون بذل جهد فيه، فهذا يشكك في ثقة الناس بما يسميه علماء النفس "العالَم العادل". وهذا الإحساس يساعد في تفسير استمرار المعلمين بإعطاء طلابهم الكثير من الواجبات المنزلية على الرغم من الأدلة المشكوك فيها عن جدوى هذه الواجبات، وعلى الرغم من انعدام الأدلة عن فوائدها في مرحلة المدرسة الابتدائية.

• السبب الثالث هو مفهوم "التنشئة تتفوّق الطبيعة"، إن ضرورة الموهبة الفطرية هو أمر سمعنا عنه لقرون، وإن قول البعض بأنّ توزُّع مواطن القوّة لدى البشر هو بسبب التفوق الطبيعي لمجموعة متميزة من الناس؛ سيؤدي إلى أن يعزوَ الجميع النجاح للموهبة الموروثة. وبالتالي؛ توضيح أن العبقري يُصنع ولا يولد يبدو أكثر عدلاً. وقد قطعت 'Carol Dweck' وزملاؤها الشك باليقين حين قدمت دلائلاً على أن الطلاب يلتزمون بالتعلم بشكل أفضل عندما يؤمنون بأن تحسن الأداء هو نتيجة لبذل المجهود، وهذا أمر بمقدورهم التحكم به، بدلا من مستوى معين من الذكاء قد يمتلكونه أو قد يفتقرون إليه.

وهكذا، وللعديد منّا، كانت نتائج إيركسن مطمئنة للغاية، فمن جدّ وجد. ولكن، يأتي هنا الدور لبحث تحليلي جديد، وملخَّص إحصائي لـ157 مقارنة منفصلة في 88 دراسة حديثة. وقد وجد هذا البحث التحليلي أن الممارسة، في الحقيقة، لا تلعب ذلك الدور الهائل كما نودّ أن نظن.

تقول 'Brooke Macnamara' بالإضافة إلى 'David Hambrick' و 'Frederick Oswald' أنّ "الدليل واضح تماماً عن وصول البعض إلى مستوى النخبة في أدائه دون اللجوء للممارسة المكثفة، بينما يفشل البعض الآخر في ذلك رغم الممارسة المكثفة أيضاً. في الواقع، قام هؤلاء ببعض الحسابات، واتضح لديهم أن مقدار الممارسة المدروسة والمنظمة يمثل نسبة %12 فقط من جودة الأداء، أي أن نسبة %88 تعود لعوامل أخرى. يا تُرى ما هي هذه العوامل؟

في حال علمنا أنّ المُمارسة ذات أهميّة أقل مما اعتقدنا؛ فالشائع هو أن نفترض أن المهارات والمواهب التي تأتي مع الولادة ستحظى بأهمية أكبر، وكأنّ هناك عاملان فقط يُسهمان في التفوق، بل ويرتبطان بعلاقة عكسية، وهذا بالطبع ليس صحيحاً بالضرورة. لقد اختُتِم الاستفسار الذي طرحته 'Macnamara' وزملاؤها بخاتمة مفتوحة بشكل ملائم: "لدينا دليل تجريبي على أن الممارسة المدروسة والمنظمة -رغم أهميتها- لا تؤثر بشكل كبير في تفاوت الأداء".

السؤال الآن هو عن الأمور الأخرى المهمة في الارتقاء بالأداء، وهناك العديد من الإجابات المُمكنة:

- أحدها هو المرحلة الحياتيّة التي انخرط فيها الفرد في النشاط الذي يسعى إلى تحسين أدائه فيه، والذي يبدو أنه ذو آثار تتعدى أهميتها عدد سنوات الممارسة. - يضيف آخرون إلى ذلك أهمية مدى انفتاح الفرد للتعلم من الآخرين والتعاون معهم، ومدى استمتاعه في أداء النشاط.

- الأمر الأخير هو الدوافع الذاتية، ويؤيد هذا الأمر قاعدة تجريبية واسعة في أماكن العمل والمدارس وغيرها. نحن نعلم أن المتعة الناتجة عن ممارسة نشاط معين هي مؤشر قوي للنجاح فيه. على سبيل المثال، حاولت مجموعة من الباحثين تصنيف العوامل التي ساعدت طلاب الصف الثالث والرابع في تذكر ما يقومون بقرائته، ووجدوا أن أهمية استمتاع الطلاب بما يقرأونه تفوق بثلاثين مرة أهمية وضوح النص وسهولة قراءته.

تتداخل جميع هذه العوامل ويحفز بعضها بعضاً، وهذا يعني أنّ كون النجاح يتأثر لدرجة ما بالممارسة لا يعني أن الممارسة هي سبب النجاح. يسعى الناس لتكثيف الممارسة في المقام الأول بدافع الحماس، إذ أنّ الممارسة هي دلالة على الحماس. و إنّ الموهبة الطبيعية ربما تلعب دوراً في تعزيز كلاً من الاهتمام والنجاح، ويؤثر هذان المتغيران في بعضهما البعض.

تمثل أهمية الممارسة نسبة %26 من تفاوت الأداء في الألعاب، %21 في إتقان الموسيقى، %18 في الرياضة، %4 في علامات الدراسة في الكلية، وأقل من %1 في النجاح المهني. إذن، ما ينطبق على "Time on Task" ينطبق على الممارسة أيضاً، وهو شيء غير مفاجئ حيث أن المبدأَين مرتبطان إلى حد بعيد. إن الأمر يعتمد على النشاط الذي تؤديه، عندما يكون قابلاً للتعديل ومعقداً؛ فإن عواملاً عديدة ستلعب مجتمعة دوراً في هذا النشاط.

قد يتوجب علينا مواجهة الحقيقة التي تفيد بأن معتقداتنا الفطرية عن التفوق، أو ما نظنه لزاماً حول أهمية العمل الشاق هو ليس صحيحاً بالضرورة. لكن المريح في هذا الأمر هو علمنا بأن تضاؤل دور الممارسة لا يعني ثبات مصائرنا منذ لحظة الولادة.

المصادر:

هنا

هنا

هنا