الطب > مقالات طبية

التثاؤب؛ اللغز العصي عن الحل

هل تعلم أن هنالك العديد من الدراسات والبحوث التي أُجريت ولا تزال تُجرى منذ قرونٍ مضت إلى يومنا هذا لتفسير ظاهرة التثاؤب والأساس الفيزيولوجي والعصبي لها؟ أجل عزيزي القارئ؛ فتلك الحركة اللاإرادية التي تدلُّ على تململك ورغبتك الملحة في النوم قد شكَّلت جزءًا من بحر الغموض العلمي كغيرها من الظواهر التي لم يتمكن العلماء من فكِّ شفرتها إلى الآن.

ربما أخطأنا التعبير بالقول إنها "حركة" لا إرادية، في الواقع عملية التثاؤب هي سلسلة من الحركات التي تحدث في ترتيبٍ معينٍ وفي وقتٍ معينٍ لهدفٍ أو أهدافٍ معينةٍ عدا عن كونها مجرد دلالة على الملل والنعاس.

دعونا الآن نتطرق إلى آلية التثاؤب قبل أن نخوض في الجدل الكبير الذي دار حولها منذ مئات السنين.

التثاؤب هو فعلٌ نمطيٌّ يحدث على مرحلتين ملازمتين بعضهما لبعض:

1-  المرحلة التنفسية: تبدأ هذه المرحلة بشهيق ٍعميقٍ يليه برهة قصيرة من توقف النفس وتنتهي بزفير سريع.

2-  المرحلة الحركية: تُصاحب المرحلة التنفسية، ويُجرى فيها فتح الفك السفلي وإغلاق العينين وانقباض عضلات الوجه على نحوٍ معين، وقد يصاحبها تمديد لعضلات منطقة الجذع  والرقبة والذراعين.

وقد أُطلق على التثاؤب مصطلح "منعكس عصبي" لأنه بمجرد أنه بدأ فإنك لن تستطيع إيقافه كاملًا، ولكن يمكنك التحكم بمقداره؛ بمعنى أنه يمكنك التحكم بالعضلات التي تنقبض تباعًا لهذا المنعكس، وبذلك ليس من الضروري  في كل مرةٍ نتثاءب فيها أن نفتح فمنا على مصراعيه أو أن نطلق العنان لأذرعنا لتتمدَّد في الهواء الطلق حولنا.

 ما المعتقدات والتفسيرات التي وُضعت على مرِّ الأزمان لتفسير سبب حدوث التثاؤب؟

لكل شعب معتقده بما يخص ظاهرة التثاؤب؛ فعند الشعوب العربية المسلمة ارتبط التثاؤب قديمًا بمحاولة الشيطان تشتيت انتباههم عن صلواتهم أو حتى محاولته الدخول إلى الجسم. وفي الهند ارتبط التثاؤب بدخول الأرواح الشريرة إلى الجسم أو مغادرة روح الإنسان جسده، وكأن الفم هو بوابة دخول الروح وخروجها من الجسد وإليه. أما عند شعوب المايا فإن التثاؤب هو لغة تعبير الجسد عن الحب أو الرغبة الجنسية.

وفي أوروبا؛ كان أيضًا يُعتقد أن التثاؤب أو العطاس يؤدي إلى رحيل الروح من جسد صاحبها؛ لذلك كانوا يرسمون علامة الصليب بأصابعهم أمام أفواههم عند التثاؤب أو العطاس.

أما فيما يخص هذه المعتقدات من الناحية الطبية؛ فإن أبقراط في إحدى أطروحاته افترض أن التثاؤب هو إحدى علامات السكتة الدماغية. وفي القرن الثامن عشر؛ اعتقد العالم بوريهاف أن التثاؤب عمليةٌ تُوزّع الطاقة على كل العضلات؛ إذ تتوسع فيها الأوعية الدموية لتجلب المزيد من المغذيات إلى تلك العضلات؛ أي إنها تساعد الجهاز التنفسي والدوراني على أداء وظائفهما، ولكن الأبحاث أثبتت فيما بعد بطلان اعتقاد بوريهاف.

في القرن الثامن عشر؛ رُبط حدوث التثاؤب بتحسين أكسجة الدماغ وكأنه وسيلة لتبريد الدماغ وتهويته عند ارتفاع درجة حرارته، وبعد ذلك افترض بعض العلماء أن التثاؤب علامة من علامات اختلال  الجهاز العصبي؛ فقد لُوحظ أن التثاؤب يكثر في أثناء نوبات الهستيريا أو عند وجود ورم دماغي.

السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا الآن: ما التفسير العلمي الحديث للتثاؤب؟

انقسم العلماء إلى نظريتين لتفسير ظاهرة التثاؤب:

النظرية الأولى: نظرية التواصل الاجتماعي : 

 تربط  هذه النظرية التثاؤب بالتواصل والتعاطف بين الأفراد، فمِّما يدعم هذه النظرية كون التثاؤب مُعْدٍ، وكونه ظاهرة تحدث في جميع الثدييات والفقاريات وفي مختلف مراحل الحياة.

النظرية الثانية: النظرية الفزيولوجية:

 تؤيد النظرية الفزيولوجية أن التثاؤب عمليةٌ حيويةٌ تؤدي في الجسم وظائف وفوائد معينة، وتتضمن عدة نظريات؛ منها ما يربط التثاؤب بوظيفة الجهاز التنفسي والدوراني، ومنها ما يفترض أن التثاؤب هو حالة الانتقال ما بين الصحو والنوم أو العكس، ومنها ما يعتقد أنه وسيلة لتنظيم حرارة الجسم وهي النظرية الأكثر قبولًا في المجتمع العلمي.

عام 2014؛ اقترح العالم (والسينسكي) نظرية مفادها أن التثاؤب وسيلة لنقل الدماغ من حالة الراحة إلى حالة التركيز والانتباه؛ وذلك عن طريق تنشيط حركة السائل النخاعي في الدماغ؛ أي إنك عندما تتثاءب في محاضرة ما فأنت -على الأقل- تحاول أن تركز بما يُشرح في تلك المحاضرة.

ربما تثاءبتم الآن تعبيرًا عن مللكم من تعدد النظريات، أو ربما لأنكم تحاولون التركيز للوصول إلى نظرية جديدة قد نضيفها إلى هذا المقال فيما بعد.

 طالما أن التثاؤب عملية فزيولوجية؛ فهل هنالك منطقة محددة من الدماغ مسؤولة عن تنظيمها؟

لم تُحدد تلك المنطقة إلى الآن ولكن الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ  قد أظهر أن هنالك عدة مناطق تَنشط عند التثاؤب كالقشرة الدماغية الجبهية وجذع الدماغ، ثم إن هناك العديد من النواقل العصبية التي تؤدي دورًا مهمًّا في تلك العملية كالدوبامين والسيروتونين وغيرها من النواقل العصبية.

وفي حالة التثاؤب المعدي، كشف التصوير المغناطيسي الوظيفي للدماغ أن لوزة الدماغ وما حولها تنشطان، وقد دعم ذلك الاكتشاف نظرية التواصل الاجتماعي للتثاؤب لكون لوزة الدماغ تتحكم بمشاعر التعاطف والسلوك الاجتماعي.

ولكن، هل هناك معدلٌ طبيعيٌ للتثاؤب؟

يتثاءب الإنسان بمعدل 28 مرة في اليوم وتدوم كل مرةٍ قرابة الـ 5 إلى 10 ثوان.

ويكون التثاؤب غير طبيعي إذا حدث ثلاث مراتٍ أو أكثر في ربع ساعة -أي بمعدل 288 مرة أو أكثر في اليوم الواحد- دون وجود سببٍ واضحٍ له كالنعاس أو التململ أوالتعب وغيرها من الأسباب الشائعة لحدوث التثاؤب.

إذًا؛ إذا كان هناك تثاؤب غير طبيعي؛ فعلامَ يدلُّ؟

في القرن التاسع عشر؛ عدَّ العالِمُ  "تشاركوت" أن التثاؤب علامة من العلامات الدالة على وجود اعتلال في الجهاز العصبي، ولكن اعتقاده هذا لم يُؤخذ على محمل الجد عدة سنوات، وفي الوقت الراهن تأسس علمٌ خاصٌ بالتثاؤب يُسمَّى علم دراسة التثاؤب "chasmology" كونه ظاهرة مهمة في علم طب الأعصاب.

فالتثاؤب قد يكون علامة من علامات مرض الصرع وكذلك السكتات الدماغية -الأمر الذي أخبرنا به العالم أبقراط منذ مئات السنين-، وقد يرافق أيضًا أعراض مرض التصلب اللويحي المتعدد ومرض الشلل الرعاشي والتصلب الجانبي الضموري، وكثرة التثاؤب قد تحدث أيضًا قبل أو في أثناء نوبة شقيقة حادة. وفي بعض الحالات القليلة قد تدلُّ كثرة التثاؤب على ارتفاع الضغط داخل الدماغ بسبب ورمٍ أو نزيفٍ ما.

التثاؤب وعلاقته بالأمراض النفسية والذهانية:

من منطلق نظرية التواصل الاجتماعي التي تَعدُّ التثاؤبَ شكلًا من أشكال التواصل الاجتماعي والتعاطف بين الأشخاص؛ أجريت العديد من الدراسات على مرضى التوحد ومرضى الشيزوفرينيا (انفصام الشخصية) والذين يعانون اضطرابًا في القدرة على التواصل مع غيرهم من الأشخاص. ففي دراسة شملت 24 طفلًا مصابًا بطيف التوحد و25 طفلًا سليمًا في أعمار متماثلة؛ عرض الباحثون فيديوهات لأشخاص يتثاءبون وآخرين يحركون أفواههم بطريقةٍ منظمةٍ وراقبوا عدد التثاؤبات بين هاتين المجموعتين وأحصوها، وقد توصلت هذه الدراسة إلى أن الأطفال المصابين بطيف التوحد يتثاءبون على نحو مُعدٍ بمعدل منخفض مقارنة بالأطفال السليمين وهذا الأمر يدعم نظرية التواصل الاجتماعي للتثاؤب.

وفي دراسة أخرى أجريت على مرضى الشيزوفرينيا؛ توصلت أيضًا إلى أن قدرة هؤلاء المرضى منخفضة على التثاؤب على نحو معدٍ مقارنة بالأشخاص السليمين.  

هل فرط التثاؤب يحدث فقط بسبب وجود مرض عصبي؟

لا؛ كثرة التثاؤب تدل أحيانًا على وجود مرضٍ في الجهاز الهضمي كعسر الهضم أو متلازمة الأمعاء الهيوجة، أو بسبب انخفاض سكر الدم عند المرضى المعتمدين على الأنسولين.

الأدوية وعلاقتها بالتثاؤب:   

التثاؤب قد يكون تأثيرًا جانبيًّا للعديد من الأدوية، ولكنه غير مقلق على الإطلاق، نذكر منها: أدوية القلق والاكتئاب والمسكنات الأفيونية، كذلك إذا كنت ممن يكثرون شرب القهوة وقررت أن تقلع فجأةعن شربها، فإنك لا شكَّ سوف تلاحظ كثرة تثاؤبك عند تغيير تلك العادة.

ولكن هل يمكن أن يكون التثاؤب مُضرًا؟

قد يؤدي التثاؤب بإفراط إلى خلعٍ جزئيٍّ للفك السفلي وتشنُّجات مؤلمة للعضلات المسؤولة عن المضغ، فاحذر ولا تطلق العنان لفكك في كل مرة تتثاءب فيها حفاظًا على وجهك الجميل. 

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا

4- هنا

5- هنا

6- هنا

7- هنا

8- هنا;