علم النفس > القاعدة المعرفية

الذهان: نظرة جديدة لطرق التشخيص.

تعتبر الاضطرابات الذهانيّة "Psychotic illnesses" من الأمراض النادرة نوعا ما، إلا أنها من الأمراض العقلية الشديدة، قد تصيب واحد من بين مئة شخص في مرحلة ما من حياة الفرد وغالبا ما تظهر في سن المراهقة و مرحلة البلوغ المبكر، إلا أن أعراضها قد تصبح واضحة في مرحلة البلوغ وحتى لاحقاً في سنوات متقدمة من العمر.

قد يكون هنالك استعداد وراثيّ للإصابة بالذُهان، لكن ليس عن طريق مورثة واحدة بل عدة مورثات مُجتمعة، بالإضافة إلى عوامل بيئية شديدة كالضغط النفسيّ واستخدام الممنوعات وعوامل اجتماعية أُُخرى..

لم تتغير طرق تشخيص المرض الذُهاني في العشرين سنة الماضية، فلأطباء النفسيون يعتمدون بشكل رئيسي على مراقبة الأعراض ومن ثم تخمين سبل العلاج تبعاً لمُشاهداتهم و رؤيتهم لوضع المريض وظروفه المُحيطة، إلا أن الأدوات التي ظهرت مُؤخرا يُمكن أن تُقدم طُرقا أكثر تطورا لتشخيص المرض والتنبؤ بمسار تطوره وتوفير علاج محدد ومُبكر له.

- الأعراض والشدة:

ناقشنا في المقالات السابقة أعراض الاضطرابات الذهانية، التي تشمل توهمات رهابية وشكوك مرضية، كما قد يبدأ المريض برؤية البيئة المحيطة به كمصدر خطر يشكل تهديدا له، بمافي ذلك العائلة والأصدقاء، كما قد يتعرض لنوبات هلوسة، خاصة السمعية والبصرية، و اضطرابات في المزاج و تشوش و تفكك في الأفكار، و انخفاض في النشاط و الهمة و تراجع القدرة على القيام بالأعمال اليومية الاعتيادية كالذهاب للعمل أو المدرسة أو الجامعة، وأيضاً اضطرابات النوم شائعة بين هؤلاء المرضى.

- ذكرنا أن الاضطرابات الذهانية تتنوع لتشمل مجموعةً من الأمراض إلا أن أشكالها أيضاً متعددة وأكثرها شيوعاً:

النوع الأول: يُصاب المريض بنوبة ذهان واحدة فقط خلال حياته ليتبعها حالة شفاء تام فيما بعد.

النوع الثاني: يتعرض المريض لاضطرابات ذهانية متعددة خلال حياته إلا أنّه يتماثل للشفاء التام في الفترات التي تفصل بين هذه الحالات و يمارس حياةً طبيعية وغالباً ما يكون هؤلاء الأشخاص بحاجة لعلاج مستمر طوال حياتهم.

النوع الثالث: يتعرض المريض لحالات ذهانية متعددة تؤدي لانخفاض تدريجي في أدائه وإنتاجه اليومي حيث أنه لا يتماثل للشفاء كلياً في الفترات التي تفصل بين نوبات الذُهان التي قد تصيبه بل يسوء وضعه ويتفاقم مرضه.

أما بالنسبة للنوع الرابع والأخير فيعتبر من أكثر أشكال الذهان شدةً، حيث أن النوبة الأُولى التي تُصيب المريض تُسبب انهيارا بالغاً في أدائه على جميع المستويات (العمل، التعليم، العلاقات الاجتماعية) بالإضافة لوجود دائم لأعراض خطيرة تتطلب علاجاً مكثفاً ومركزاً.

- مُشكلات تشخيص الأمراض الذهانية:

عندما تظهر الأعراض الأولية لمرض الذُهان فإن الأطباء يجدون صعوبة في تحديد أي شكل من الأشكال الأربعة سيتخذ المرض الذُهاني في تطوره، وبالتالي صعوبة في معرفة نوع العلاج الذي ينبغي توفيره للمريض. هذا يعني أن كُلا من العلاج وفترات النقاهة والشفاء التي تفصل بين حالات الذهان المتعددة قد يكون لها أثار ارتكاسية أكثر منها وقائية.

و على عكس الأمراض الجسدية، لا يُمكن تشخيص المرض النفسي بالاعتماد على فحوصات الدم ومسح الدماغ والفحوصات البيولوجية الأُُخرى، ونتيجة لهذا النقص في دقة التشخيص فإن هذا المجال يعتمد على المُلاحظة بشكل محض.هنالك دليل مُتنام على أن تطور المرض يتوقف على جملة واسعة من العوامل بما فيها عوامل اجتماعية و سكانية سريرية و نفسية و بيولوجية.

- منهجية التشخيص المتطورة:

قام فريق من الباحثين بتطوير بديل مُحتمل لتشخيص وعلاج المرضى الذين يُعانون من مرض عقلي مُزمن وبشكل خاص مرضى الذُهان، يشمل هذا النموذج البديل جملة من العوامل التشخيصية بما فيها:

الأعراض السريرية، القدرات المعرفية (الذاكرة، التركيز، الانتباه)، صور الرنين المغناطيسي لبنية الدماغ (لتحديد أي خلل في شكل الدماغ أو في أداء وظائفه، خاصة في المناطق الرمادية منه)، مؤشرات التهاب أو خلل في الخلايا العصبية، وغيرها.

كل عامل من هذه العوامل قد يكون له تأثير و دور في تطور المرض و مدى الشدة التي قد يصل إليها، فعندما نتعامل مع هذه العناصر كل على حدة غالباً ما يكون احتمالات التنبأ بالمرض ضعيفة للغاية، لكن عندما ننظر إلى هذه العناصر مُجتمعة باستخدام نموذج تشخيص ملائم، تكون احتمالات التنبأ بمسار المرض كبيرة للغاية.

بالإضافة للتنبأ بمسار المرض يساعد هذا النموذج أيضا على تحديد احتياجات المريض من العلاج في وقت مبكر وبصورة أكثر دقة تلائم احتياجاته بشكل خاص.

الخطوات اللاحقة التي ستتبع في هذا البحث:

تتطلب منهجية التشخيص المُقترحة تغييرا في بنية الممارسة السريرية "clinical practice" الذي يُعنى بآليات تقييم المرض وتشخيصه وعلاجه. يتم حاليا إعادة تحليل المعلومات التي تخص دراسات سابقة تُعنى بالاضطرابات الذهانية وأيضا الدراسات والأبحاث الجارية لإظهار مدى فعالية وقابلية تطبيق منهجية التشخيص الجديدة باستخدام بيانات المرضى المتوفرة حالياً ويتم أيضا اختبار هذا النموذج على مجموعة أخرى من المرضى قد تم تشخيصهم بحالات أخرى كالاكتئاب، فإذا ثبتت فعاليته وقابلية تطبيقه بعد إجراء المزيد من الاختبارات والتعديلات الدقيقة عليه، فإن هذا النموذج سُيحدث تغييراً جذريا في مجال علم النفس التحليلي حيث نأمل أنه في المستقبل القريب سيساعد المرضى على تغيير حال مرضهم للأفضل مما ينعكس إيجابا على حياتهم.

في النهاية نختم هذه السلسلة بأن نشكر متابعتكم ونتمنى أن تشاركونا بآراءكم. وترقبوا مجموعة من المقالات القادمة، والتي سنتناول فيها العديد من الأمراض الذهانية بالتفصيل. :)

المصدر:

هنا