البيولوجيا والتطوّر > بيولوجي

علاج السرطان اليوم كما تفضله الجينات!

بدأت الدراسات والأبحاث على العلاجات الشخصية، أو ما يُقال عنه اصطلاحا ً Personalized treatment، على مرضى السرطان بعد ثورة التقانة الحيوية Biotechnology والهندسة الوراثية الجزيئية. وهي بعبارات مختصرة: تركيب دواء بيولوجي (وليس كيماوي) مخصص لمريض واحد فقط متوافق مع بنيته الوراثية. نعم هذا صحيح، كما قرأتها، لمريض واحد فقط. أي أنَّ هذا الدواء سيخرج من الشركة الدوائية (أو من المختبر) بإسم مريض واحد بعينه، لأنّه وبكل بساطة، لن يعمل في جسم مريض آخر. ليس هذا فحسب، فالعلاجات الشخصية لا تقتصر على تصنيع الأدوية الشخصية، إنما تبدأ أيضاً في مرحلة التشخيص، ليستطيع الأطباء تحديد ماهية العلاج الأكثر فعالية.

واحدة من إحدى التجارب الناجحة في استخدام العلاج الشخصي في مرحلة التشخيص، هي تجربة المدير المساعد لمعهد الجينوم في جامعة واشنطن، إلين مارديس. ففي يوم من أيام سنة 2010، قابلت مارديس وزملاؤها المريضة لوسي البالغة من العمر 39 عاماً لأول مرة، حيث كان قد تم تحويلها إلى المعهد وذلك بعد أن كان تشخيصها بابيضاض الدم (أو اللوكيميا) محيرا ً. فقد ظن أطباؤها المشرفون على تشخيصها بأنها مصابة بنوع مشتق من مرض اللوكيميا يسمى بلوكيميا سليفة النقوية الحاد Acute Promyelocytic Leukemia واختصاراً APL ، وهو لحسن الحظ أحد أكثر أنواع اللوكيميا قابلية للعلاج، والذي ينتج عادة عن تبادل في قطع الصبغيات 17 و 15، مما يفعّل الإنتاج المفرط للخلايا المشكّلة للدم. ولكن الحقيقة لم تكن لطيفة، فقد تبين للأطباء بأن خصائص صبغياتها الأخرى تُنبئ بأنّها مصابة بحالة أخطر من الـ APL. لذلك، اتضح لهم بأن هذه المريضة ستحتاج لعملية زراعة لنقي العظم، والتي تعتبر خطيرة في حالتها.

بما أن إلين مارديس، وهي المدير المساعد لمعهد الجينوم، مشاركة في مبادرة الجامعة لتحليل تتابعية الجينوم بالإضافة لتحاليل أخرى (وذلك لإنتاج أداة فعالة مخصصة لمهاجمة السرطانات الصعبة)، فقد قامت بتحليل جينوم المريضة لوسي بالإضافة إلى جينوم سرطانها. وفي الأثناء التي كان زملاء مارديس يعالجون لوسي من الـAPL بالطرق التقليدية، كانت إلين مارديس تحلل جينومات المريضة لتتأكد من السبب الحقيقي وراء مرضها، وللتأكد أيضاً من الحاجة لزراعة نقي العظم. فاكتشفت مارديس بأن سبب اللوكيميا الذي أصاب لوسي كان بالفعل ناتج عن إدخال قطعة من الكروموسوم 15 في الكروموسوم 17، مما يعني أن العلاج التقليدي الذي كانت تتلقاه لوسي آنذاك كافياً، ولن تحتاج لعملية زرع نقي العظم الخطيرة في حالتها. علقت مارديس على نتائج التحليل قائلة: "تحليلاتنا للكروموسومات أكدت بأن المريضة سوف تتجاوب بشكل جيد مع العلاج التقليدي للـ APL".

هذه التجربة توضح لنا كيف لتقانة العلاج الشخصي أن تنقذ حياة المرضى في حال استخدمت في المراحل المبكرة من التشخيص. فهذه التقانة قد ساهمت بإنقاذ المريضة لوسي من عمل جراحي خطير كان ليكلفها حياتها لو كان قد تم كما ظنّ الأطباء قبل تحليل الجينومات. ومن هنا، يبدو لنا كمستمعين بأن تقانة الدواء الشخصي يجب أن تلعب دوراً أساسياً في تشخيص وعلاج مرضى السرطان بشكل خاص. تمر تقانة الدواء الشخصي الدقيق لعلاج السرطان بوقت عصيب قبل اعتمادها رسمياً. فهناك العديد من القصص التي تَعِد بنجاح هكذا علاجات، تماما كحالة المريضة لوسي، حيث أن تنميط الحمض النووي DNA للأورام يعطي اقتراحا لخطوات واضحة للعلاج، مع نتائج مثبتة مع المرضى. إلا أن هذا المجال مازال محدودا بالعديد من التعقيدات والتقييدات.

لقد تعلم الباحثون الكثير خلال العقود الماضية عن السرطان وعن كيفية التعامل معه، بالأخص باستخدام كوكتيلات من العلاجات الكيميائية التي تصيب بلا تمييز مجموعات من الخلايا النامية بسرعة (القصد بالنامية، أي التي تنقسم بكثرة، وليس التي تزداد بحجمها)، والتي تعتبر فعّالة لحد معين. إلا أن النظرة الآن تتوجه نحو الإعتقاد بأن اكتشاف وتحديد الطفرات الجينية الأساسية التي تسبب نمواً سرطانياً معيناً سيؤدي حتماً لاستهداف هذه الأورام بشكل أكثر دقة مع أقل تأثيرات سُميّة ممكنة. ولكن، هذه المعرفة ما زالت غير ممكنة الآن، مما يترك تفسير تطورات الخلايا الشاذة غير مفسر تماماً. ومن هذه النقطة، يأتي ذكر أحد أنجح التجارب في استخدام الأدوية الشخصية، وهي تجربة الدواء المسمى إيماتينيب، وتجارياً باسم Gleevacو Glivec)، والمضاد لأحد سرطانات الدم النادرة المسماة باللوكيميا نقوية المنشأ المزمنة (Chronic Myelogenous Leukemia)، اختصارا CML. فهذا السرطان ينتج عادةً عن إعادة ترتيب غير طبيعية لقطع صبغيّة لصبغيين مختلفين، بحيث أنَّ هذه القطع الصبغية تتبادل الأماكن فيما بينها. وعلاج مرضى الـ CML يتطلب تحليل عدد معين من جينات المريض للتأكد بأنه مؤهل لتلقي إيماتينيب. وقد أتى هذا العلاج بثماره بشكل واضح، وعلق عليه مدير مركز علاجات السرطان الشخصية في جامعة كاليفورنيا قائلاً:

"في الثمانينات، كانت نتيجة هذا المرض هي الموت الحتمي بعد حوالي 6 سنوات، ما لم يتلقى المريض زراعة ناجحة لنقي العظم. أما اليوم، فمتوسط البقاء هو 20 سنة...". ربما تجب الإشارة هنا إلى أن نجاح وفعالية هذا الدواء ليست برخيصة، ففي عام 2012، بلغت تكلفة العلاج لمدة سنة 92 ألف دولار أميركي.

مع أن العديد من معاهد الأبحاث والمختبرات رأت نجاحات العلاجات الشخصية، إلا أنَّ الأخيرة مازالت تواجه بعض التحديات. فالعلاج الشخصي ليس فقط مرهوناً بقراءة الطفرات الوراثية في جينوم الورم السرطاني، إنما أيضاً مرهون بتوقيت استخدام هذه العلاجات. فيتوجب على الباحثين فهم مواقيت تغير الطفرات والأورام، ليتم استخدام العلاج في الوقت المناسب تماماً. فهم توقيت هذه التحولات مازال محدودا، ودراستها بشكل أكبر يتطلب استئصال خزعات من الأورام. وهذا هو التحدي الثاني، إذ أنَّ تكرار انتزاع الخزعات مؤلم وغير مرغوب، وأحياناً تكون مستحيلة، إذ أن عملية أخذ الخزعة قد تؤدي أحيانا لتفاقم المرض.

ازداد الإهتمام بشكل كبير بالتوجه نحو العلاجات الشخصية، وازدادت الدراسات والأبحاث كذلك. ومع الوقت تبين أن دمج العلاجات الشخصية مع العلاجات المناعية يزيد من نجاح كفاءة العلاج ككل. فتشمل العلاجات المناعية استخراج بعض الخلايا المناعية للمريض والقيام بهندستها وراثيا بحيث أنها تصبح موجه لمستقبلات أو بروتينات معينة لخلايا سرطانية محددة، ومن ثم إعادة زرعها بالمريض. فعند اعطاء المريض علاج مناعي موجَّه، بالإضافة لعلاج شخصي، فإن هذا المزيج سيؤدي إلى محاربة الخلايا السرطانية من أكثر من محور.

يبقى لنا أن نتذكر دائما بأن السرطان مازال عدوا للبشرية قادر بشكل ماكر على إخفاء أسراره. ويجب كذلك أن نتذكر بأن التطورات التي حصلت في مجال علاج السرطان لا يستهان بها، والتي أنقذت العديد من الحيوات، كما حدث مع المريضة لوسي المذكورة سابقاً.

المصدر

هنا