الفلسفة وعلم الاجتماع > أعلام ومفكرون

ماركوس أوريليوس، الملك الفيلسوف

"إذا شئت أن تملك السيطرة على الألم فافتح كتابه المبارك وأوغل فيه، ولسوف يتسنى لك بغدق فلسفته أن ترى كل المستقبل والحاضر والماضي، ولسوف تدرك أنَّ كلاً من الفرح والترح لا يعدو أن يكون دخاناً".

ربما كان الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس "الملك-الفيلسوف" الوحيد في تاريخ العالم، وقد لا يكون فيلسوفاً بالمعنى المنهجي للكلمة إلا أنَّ مجموعة التأمّلات التي أسرّها لنفسه قد شكلت أساساً لاعتقاده الرواقي بوحدة الوجود.

حكم ماركوس بين عامي 161 و180 للميلاد وقد عرف بعدله وصلاحه فكان متسامحاً مع أعداءه كارهاً لأساليب الحكم

الملتوية فحظر عمل المخبرين وقضى على الفساد، ولم يتوانى في تحرير العبيد كلما سنحت له الفرصة وعندما أراد تمويل حملاته الحربية في أوروبا الشرقية رفض زيادة الضرائب وبدلا من ذلك عقد مزاداً علنياً باع فيه مقتنياته وأثواب زوجته الحريرية، لقد أثبت ماركوس مرة واحدة وإلى الأبد مقولة أفلاطون الشهيرة "لا يصلح أمر هذه الأمٌة إلاٌ إذا حكم فلاسفتها أوتفلسف حكٌامها".

كتب ماركوس تأمّلاته يوماً بيوم وفي كل ظرفٍ حتى أثناء الحرب، وقد تبدو هذه التأملات استجابةً لسلطة أعلى من سلطة الإمبراطور، من الموت نفسه الذي كان يرهبه خصوصاً في أيام الحرب، ويبدو أن أشدّ ما أغفله ماركوس كان فرض مذهبه الرواقيّ كدينٍ رسميّ للدولة كما فعل ثيودوسيوس فيما بعد عند فرضه للديانة المسيحية، فلو فعل ذلك لتغير تاريخ العالم كله بشكل هائل وإلى الأبد.

في الواقع كانت الرواقية واحدة من الحركات الفلسفية الجديدة للفترة الهيلنستية، وقد تأسست في أثينا من قبل زينون الرواقي في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد، فأعلن روادها أنّ المشاعر النفسيّة الهدّامة تنتج عن أخطاء في الحكم، فالشخص الحكيم الذي بلغ الكمال الأخلاقيّ والفكري لن يعاني من مثل هذه المشاعر أبداً وهكذا نشأت الرواقيّة لتعين الإنسان في الشدائد والمحن ولكي تعلِّمه كيف يصمد في الخطوب ويثبت في الأزمات العنيفة التي اعترت المجتمع في العصر الهيلينستي، ونحن في مقامنا هذا لن نتوسع أكثر في الكلام النظري عن المذهب الرواقي عموماً بل سنوجز أهم نقاط الرواقيّة كما ظهرت في تأملات ماركوس أوريليوس والتي كتبها باللغة اليونانية "لغة الصفوة من مثقفي الرومان في ذلك الوقت"، ووسمها بعبارة

غامضة "شὰ هἰٍ ἑلُôüي، Ta eis heauton " وتعني "إلى نفسه"، أي إن الإمبراطور يخاطب نفسه فقط ولم يكتبها على الإطلاق ليقرأها أحد سواه.

1- وحدة الكون:

"ثمة ضوء واحد للشمس حتى إن تشتت على الجدران والجبال وما لا يحصى من الأشياء. ثمة مادة عامة واحدة وإن تكسرت إلى ما لا يحصى من الأجسام، لكل منها صورته وخصائصه. ثمة روح حيوانية واحدة وإن توزعت بين ما لا يحصى من الأنواع والأفراد، وروح عاقلة واحدة وإن بدت مقسمة".

"انظر دائماً إلى العالم على أنه كائن حي واحد، يتكون من مادة واحدة وروح واحدة، انظر كيف يذوب الكل في هذا الوعي الواحد، كيف تخضع كل أفعاله لنزوع واحد، كيف تتعاون الأشياء جميعاً فيما يحدث، انظر أيضاً الغزل الدائم لخيط الشبكة ونسيجها".

"جميع الأشياء متواشجة متشابكة، يربطها معاً رباطٌ مقدس، لا شيء غريب عن الأشياء الأخرى، فجميعها قد رتبت معاً لكي تتعاون على تحقيق النظام الواحد للعالم، ذلك أن العالم المؤلف من جميع الأشياء واحد والإله المنبث في كل الأشياء واحد، والمادة واحدة والقانون واحد والحقيقة واحدة، لأن الحقيقة هي كمال الموجودات العاقلة المشاركة في عقل واحد".

2- التغير:

"تستخدم الطبيعة مادة العالم مثلما يستخدم الشمع، فتارة تخلق منه كهيئة حصان وثم تصهره وتستخدم مادته لخلق شجرة ثم إنسان ثم شيء آخر، كل شيء من هذه الأشياء لا يدوم إلا قليلاً، ليس صعباً على الوعاء أن يتحطم، مثلما لم يكن صعباً عليه أن يستوي من قبل وعاءً".

"تأمل دائماً كل ما يأتي به التغير، وروض نفسك على فكرة أن الطبيعة " الكل" لا تولع بشيء قدر ولعها بتغير كل شكل من الوجود إلى شكل آخر جديد، وكل ما يوجد هو بمعنى ما بذرة لما يأتي بعده".

3- الحيوان الاجتماعي:

"لقد خلقنا للتعاون، شأننا شأن القدمين واليدين والجفنين وصفي الأسنان، التشاحن ضد الطبيعة، وضدها، ومن ثم العداوة والبغضاء".

4- الانتماء إلى الكل:

"كم ذا تسوف هذا وترجئه، وكم ذا تمنحك الآلهة فرصة فتضيعها، ألم يأن لك أن تفهم هذا العالم الذي أنت جزء منه، وتفهم مدبر هذا العالم الذي أنت فيض منه؟ ألا تدرك أن هناك حداً لعمرك، فإذا لم تستغله لتبديد غيومك فسوف يذهب العمر وسوف تذهب ولن تعود الفرصة مرة أخرى".

"إنما تؤذي النفس نفسها، أول ما تؤذي، عندما تصبح -ما أمكنها ذلك- كياناً منفصلاً، أشبه بورم على جسد العالم، فالسخط على أي شيء تجري به الأقدار هوتمردٌ انفصاليّ عن الطبيعة التي تضم معاً الطبائع الجزئية لجميع الأشياء الأخرى".

"ولسوف تمنح عقلك انفراجاً إذا أديت كل فعل كما لوكان آخر شيء تؤديه في حياتك، نافضاً عنك روح الإهمال وانعدام الهدف، وكلَّ نفورٍ عنيف من أوامر العقل، وكل رياءٍ، وكل تبرّم من نصيبك المقسوم. أرأيت كم هي قليلة الأشياء التي تلزم المرء أن يعيش حياة هادئةً نقيّة؟ الآلهة نفسها لا تطلب من المرء أكثر من أن يراعي الأشياء".

5- التناغم مع الكون:

"ضع نصب عينيك دائماً هذه الأشياء: ما هي طبيعة "الكلّ"؟ ما هي طبيعتي الخاصة؟ ما علاقة هذه الطبيعة بتلك؟ أيّ صنفٍ من الجزء يتبع لأيّ صنفٍ من الكل؟ ليس بإمكان أحد أن يحول بينك وبين أن تقول ما تقول وتعمل ما تعمل وفقاً لتلك الطبيعة التي أنت جزء منها".

"أيها العالم.. كل شيء يلائمني إذا لاءمك، وكلّ ما هو في أوانه بالنسبة إليك فهوكذلك عندي، لا متقدم لديّ ولا متأخر. أيتها الطبيعة.. كل ما تجلبه مواسمك فهو ثمرةٌ لي، كل شيء منك يأتي وفيك يعيش وإليك يعود".

6- القناعة في الحياة:

"إذا ما انصرفت إلى المهمّة التي بين يديك، متبعاً العقل الصحيح بكلّ عزمٍ وجدّ وخلوص نيّة، دون أن تسمح لأي شيء أن يشتتك، محافظاً على الجانب الإلهي فيك نقياً ثابتاً كما لوكان مقدراً عليك أن تقبض حالاً، إذا تمسكت بذلك غير طامع في شيء ولا متوجسٍ من شيء، بل راضياً بما تفعله الآن وفقاً للطبيعة وبصدق بطوليّ في كل ما تقول وتقصد، فلسوف تعيش سعيداً، ولن يملك أيّ إنسان أن يصدك عن ذلك".

7- مواجهة الموت:

"شفى أبقراط ما لا يحصى من الأمراض ثم مرض هو نفسه ومات. تنبأ المنجمون الكلدانيون بموت الكثير من الناس ثم لم يلبث كلّ منهم أن وافته المنيّة. الإسكندر، وبومبي، ويوليوس قيصر، أفنوا مدناً بأكملها يوماً بعد يوم وذبحوا عشرات الآلاف من الفرسان والرجال في ميادين المعارك. طويلاً ما تأمل هيراقليطس في الحريق النهائي للعالم، غير أن ماء الاستسقاء ملأ بطنه ومات مكسواً بكمادة من روث البقر، مات ديمقريطس بالقمّل، وقتلت سقراط حشرات من صنف آخر. ماذا يعني كل هذا؟ لقد صعدت السفينة، أقلعت، رست. فارحل الآن. فإذا كان لحياةٍ أخرى فلن يخلو حتى هذا الشاطئ من الآلهة، وإذا لم يكن هناك أي حياة أو حسّ فلن تعاني من الآلام واللذّات، ولن تكون مستعبداً لوعاءٍ جسديّ هو سيدٌ بالغ الدناءة بقدر ما عبدُه بالغ الرفعة، فهذا عقل وروح، وذاك مجرد تراب ودم ".

"لقد وُجدتَ كجزءٍ من الكلّ. ولسوف تتلاشى في ذلك الذي أتى بك، أوبالأحرى سوف تُستردّ مرّةً ثانية بالتحول العنصريّ، إلى المبدأ المولد للعالم".

"اذكر دائماً كم من الأطباء ماتوا بعد أن عقدوا الحاجبين فوق مرضاهم، كم من المنجمين ماتوا بعد أن تنبؤوا بموت غيرهم بخيلاء عظيمة، وكم من الفلاسفة ماتوا بعد نقاشاتٍ طويلة لها عن الموت أو الخلود، وكم من الطغاة ماتوا بعد أن تسلطوا على حياة الناس بغطرسةٍ وحشيّة كما لوكانوا هم أنفسهم مخلدين في الأرض. عليك إذن أن تقضي هذه الكسرة الضئيلة من الزمان في انسجام مع الطبيعة. غادرها راضياً، مثلما تسقط زيتونة حين تبلغ النضج، مباركةً الأرض التي حملتها، وشاكرةً للشجرة التي منحتها النماء".

"مكوّنٌ أنا من صورة ومادّة، ولن تفنى أيّ منهما وتصير إلى عدم، كما أن أياً منهما لم تأت من عدم. إذن كلُّ جزءٍ مني سوف يقيض له مكانه الجديد في جزء ما من العالم، وهذا الجزء سوف يتغير بدوره إلى جزء آخر من العالم، وهكذا إلى غير نهاية".

المصادر:

هنا

وكتاب التأملات.

مصدر الصورة:

هنا