الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

تطور المجتمع المدني - الجزء الثالث

في الجزء الثالث والأخير من سلسلتنا نقدم لكم تصور كل من جون رولنز، آدم سميث، وهيغل للمجتمع المدني.

المجتمع المدني عند جون رولنز:

شكل كتاب المفكر الأمريكي جون رولز "نظريّة في العدّالة" نقلة نوعيّة في الفكر الليبرالي في القرن العشرين. افترض رولز أنّ مبادئ العدالة هي الأساس لتحديد مفهوم الخير وتتحدد بمبدأين أساسين:

- الأول: يتعلق بالحريّات والحقوق. وينصّ على أنّ لكلّ فردٍ الحقّ في التمتع بالحدّ الأقصى من الحريّة، على أن يُقرّ للآخرين بحقٍّ مماثل.

- الثاني: يتعلق بالعدالة التوزيعيّة. وفحواه أنّ اللامساواة بين أعضاء المجتمع غير مسوَّغة، إلا في حالة كونها في صالح الأقل حظاً، ومن هم في وضع أسوأ ممن سواهم. ولكنَّ مبدأ العدالة التوزيعيّة اصطدم بمبدأ أسبقيّة الحقّ على الخير. والذي يقضي بعدم جواز المساس بأيّ حقِّ فرديّ باسم المصلحة العامة أو تحقيق الخير العام.

المجتمع المدني عند آدم سميث:

لم يذهب سميث في تفسير نشوء المجتمع المدنيّ إلى مفهوم العقد الاجتماعيّ. إنما ذهب إلى قانون النتائج غير المتوقعة من خلال شبكة كاملة وواسعة من الأعمال والمنافع المتبادلة. فالمجتمع المدني عنده هو مجتمع تجاري، يقوم على أساس

اقتصادي، ومبدأ تقسيم العمل. أي أنه يسيّر نفسه بنفسه. وهذا ما يرتبط بمبادئ سميث الاقتصادية.

المجتمع المدني عند هيغل:

وبالمقارنة مع ثنائية المجتمع الطبيعيّ المدنيّ التي سادت منذ لوك حتى روسو فإنَّ المفهوم الهيغيلي أوسع وأغنى. ذلك أنَّه لا يحتوي فقط على العلاقات الاقتصاديّة وتشكيل الطبقات، بل هو بنيّة آليّة قضائية وإداريّة تعاونيّة. والتجديد الهيغيلي يقوم على اعتبار المجتمع المدني كحالة وسيطة بين العائلة والدولة. لهذا السبب لا يتضمن مفهوم هيغل كل المؤسسات وعلاقات ما قبل الدولة كالأسرة كما هو الحال في المجتمع الطبيعي عند لوك. بل هو مستوى العلاقات الاقتصادية بتنظيماتها الخارجية طبقا لمبادئ الدولة الليبرالية، أي انه يحتوي على مجتمع البرجوازية ودولتها.

في هذه الفترة تبلور مفهوم المجتمع المدنيّ في المحاولة التي قام بها الفيلسوف الألماني هيغل. إن المجتمع المدني، حسب هيغل هو نظام الحاجات أو مكان التبادل والإنتاج الخاصّ الذي لا يمكن أن يولد أو يتطور إلا بواسطة الدولة المجسّدة للمصلحة العامة.

يستعرض هيغل مفهوم المجتمع المدني عبر مستويين:

- الأول تاريخي عمودي عبر الانتقال من الأسلوب الإقطاعي للملكيّة الخاصة وعلاقاتها، إلى الأسلوب الرأسمالي للملكيّة الخاصة، حيث يشير إلى الانتقال من الجماعة الطبيعية (العائلة)، إلى الجماعة السياسيّة. ويرافق هذا التحول تحولّ في الدساتير والقوانين فيظهر القانون المدني (البرجوازي) لحماية هذا الحقّ، حق الملكيّة الخاصّة للأفراد.

- المحور الثاني في تناول هيغل للمجتمع المدني هو المحور البنيوي (الأفقي). أي دراسة المجتمع المدنيّ من حيث هو المسافة الاجتماعية – الاقتصادية بين الفرد والدولة، التي هي سلطة سياسيّة. وعلى هذا فالمجتمع المدني عند هيغل يشتمل على علاقات الإنتاج الاجتماعيّة-الاقتصاديّة، والنقابات الحرفيّة، والمنظمات الدينية والأهلية، والنقابات العمالية، والأحزاب السياسية، ويشمل الأجهزة الإديولوجيّة والتربويّة للدولة الحديثة (المدارس والجامعات والمؤسسات التربويّة الأخرى) باستثناء القضاء والبرلمان والحكومة.

تقوم فكرة المجتمع المدني عند هيغل على تجاوز مستوى الأسرة. فالأطفال الذين يتلقون رعايتهم ضمن الأسرة، سرعان ما يكبرون وما أن يصبحوا في سن تمكنهم من التصرف وامتلاك الشخصيّة المستقلّة والاعتبارية أمام القانون، حتى ينفصلوا عن أسرهم ويؤسسوا أسر جديدة. وهم داخل الأسرة ليسوا غايات في

ذاتهم، في حين هم خارج الأسرة شخصيات مستقلة كل منها غاية في ذاتها، تعامل الآخرين على أنهم وسائل تحقيق غايتها فيصبح كل واحد معتمداً على الآخرين جميعاً لأنّه بدونهم لا يستطيع تحقيق غايته. وهكذا ينشأ اعتماد متبادل، وهو جوهر ما يسميه هيغل المجتمع المدني. فالمبدأ الأساسي فيه هو الفرد الجزئي. باختصار، يتركب المجتمع المدنيّ من أعضاء مستقليّن يتخذ كل منهم نظرة خاصّة تجاه الأشياء و يعمل من أجل غايته الخاصة.

وفقاً لهيغل، ليس المجتمع المدني سوى لحظة في صيرورة أكبر تجد تجسيدها في الدولة ذاتها، وهي في الواقع الدولة القوميّة. فالمجتمع المدني لا يجد مضمونه الحقيقيّ إلّا في الدولة التي تجسّد ما هو مطلق، أي الحريّة والقانون والغاية التاريخية في أجلى تجلياتها.

والخلاصة التي يمكن التوصل إليها، هو أن الأساس التاريخي لمفهوم المجتمع المدني ارتبط بـ:

- مضمون الحياة المدنيّة الحديثة والمعاصرة، الذي جوهره التحررّ السياسيّ، وفصل الدين عن الدولة.

- التحرر السياسي، الذي يجعل من العلمانيّة روحاً للمجتمع المدني في ظل سيادة العقلانيّة.

- احترام حقوق الإنسان.

قائمة المراجع

1- المجتمع المدني والديمقراطية، ياسر صالح، رسالة ماجستير.

2- د. الطيب بو عزة، رؤية نقدية... جون لوك والمجتمع المدني.

1- 3- كريم أبو حلاوة، إشكالية مفهوم المجتمع المدني (النشأة – التطور – التجليات)، (دمشق: دار الأهالي للتوزيع، الطبعة الأولى، 1998)

مصدر الصورة:

هنا