الفيزياء والفلك > فيزياء

هل تشبه حركة الجسيمات في ميكانيك الكم حركة الأمواج في السوائل؟

اللغز الأساسي في ميكانيك الكم هو أن الجسيمات المادية الصغيرة تتصرف أحيانا كجسيمات مادية ،و أحيانا أخرى كأمواج.

خلال القسم الأكبر من القرن الماضي كان التفسير السائد لهذه الظاهرة هو ما يعرف بـ" تفسير كوبنهاغن" لميكانيك الكم. وفق هذا التفسير فإن الجسيم إلى حد ما هو في الواقع موجة تمتد عبر الكون لكن هذه الموجة تنهار أو تنكمش الى نقطة معينة في المكان فقط عندما نقيس موضع أو مكان وجود هذا الجسيم.

لكن بعض مؤسسي ميكانيك الكم و بشكل خاص Louis de Broglie طرحوا تفسيراً مختلفا و هو ما يدعى بـ"نظرية الموجة القائدة"و التي تقترح ان الجسيمات الكمومية تكون محمولة على موجة ما توجه حركة الجسيم،و تبعا لهذه النظرية فإن الجسيمات لها مسارات محددة لكن بسبب تأثير الموجة القائدة، تبدي الجسيمات في حركتها خواصاً تشبه خواص الامواج.

جون بوش و هو بروفيسور في الرياضيات التطبيقية في معهد ماساتشوستس للعلوم و التكنولوجيا يرى أن نظرية الموجة القائدة تستحق أن تؤخذ بالحسبان لأن (يفيس كاودر) و (إيمانويل فورت) و زملاء آخرين في جامعة باريس ديدرو اكتشفوا مؤخرا منظومة تعمل وفق نفس المبدأ و الذي يبدي سلوكا إحصائيا يشابه عند ظروف معينة النظم الكمية.

تتالف منظومة كاودر و فورت من حوض يحوي سائلاً يهتز بمعدل أقل بقليل من العتبة التي يبدأ عندها تشكل الأمواج على سطحه،ثم يتم اسقاط قطيرة من السائل نفسه على السطح مما يؤدي إلى تكون موجات تتجه بعيدا عن مركز سقوط القطيرة و من ثم تبدأ القطيرة بالتحرك عبر الحوض مدفوعة من الموجات نفسها التي هي كونتها. "هذا النظام بدون شك يختلف كميا عن ميكانيكا الكم" يقول بوش "كما انه يختلف عنها نوعا:هناك عدد من خصائص ميكانيكا الكم التي لا يمكننا ان نحصل عليها،نحن نعرف أن بعض خواص هذا النظام ليست حاضرة في ميكانيك الكم،لكن هل يختلفان عن بعضهما من الناحية المبدأ الرياضي المستخدم لوصفهما؟"

يعتقد بوش ان تفسير كوبنهاغن يتغاضى عن التحدي التقني المتمثل بحساب مسار الجسيمات عن طريق انكار وجود هذه المسارات أساساً. ويشرح بوش أن السؤال الحقيقي فعلا هو ما إذا كان التفسير الذي اقترحه سابقا لويس دي بروي لميكانيك الكم (والذي يشبه من ناحية الوصف تجربة القطيرة المذكورة) يمكن أن يعطي نفس النتائج الاحصائية لميكانيك الكم.

في العام الماضي تمكن بوش و أحد تلامذته (جان مولاكيك) من فعل ما لم يستطع لويس دوبروي أو ديفد بوهم فعله عندما اقترحوا فكرة الموجة القائدة . فقد استنتج بوش وطالبه علاقة تربط مابين حركية الموجة ومسارات الجسيمات.

في عملهما كان لبوش و مولاكيك نقطتا تفوق على رواد ميكانيكا الكم كما يقول بوش. فأولا كل من القطيرة المرتدة و موجتها القائدة مرئيين بشكل واضح،فإذا عبرت القطيرة شقا في حاجز فإن الباحثين بإمكانهم تحديد مكانها بدقة بينما الطريقة الوحيدة لإجراء هذا القياس على جسيم على النطاق الذري سيكون عن طريق صدمه بجسيم ثاني مما سيغير من سرعته.

و نقطة التقدم الثانية هو التطور النسبي الأخير في نظرية الفوضى،والتي كان أول واضعيها ادوارد لورنز من لمعهد ماساتشوستس في ستينات القرن الماضي،تقول نظرية الفوضى أن العديد من الأنظمة الفيزيائية الماكروسكوبية (أي الأنظمة الجهرية وهي الأنظمة ذات الأبعاد الكبيرة مقارنة بالمنظومات الميكروسكوبية كالذرات والجسيمات) تتأثر بشكل كبير جدا بالشروط الابتدائية لدرجة أنه برغم أن هذه الانظمة يمكن وصفها بقوانين حتمية محددة،إلا انها قد تتطور بشكل غير متوقع،فعلى سبيل المثال إن نموذج لدراسة النظام الجوي قد يفشل في توقعاته فيما اذا كانت سرعة الرياح في مكان معين 10،1 كم\سا بدلا من 10،2 كم\سا.

نظام الموجة القائدة السائل هو أيضا نظام فوضوي اذ يستحيل قياس موقع قطيرة مرتدة بدقة كافية لمعرفة مسارها لفترة كافية في المستقبل،لكن في أبحاث أخيرة قام بوش و بروفيسور معهد ماساتشوستس في الرياضيات التطبيقية (روبين روزيلس) و طالبا التخرج (أناند أوزا) و (دان هاريس) بتطبيق نظرية الموجة القائدة خاصتهم ليبينوا كيف أن حركية الموجة القائدة الفوضوية تؤدي إلى النتائج الاحصائية المشابهة لنتائج ميكانيك الكم والتي تظهر في تجربتهم.

يؤكد تفسير كوبنهاغن بشكل صريح على أنه في العالم الكمومي لا يوجد وصف اعمق من الوصف الاحصائي (أي لا يمكننا الحصول على نتائج حتمية بل فقط احتمالات الحصول على هذه النتائج). اذ انه عند القيام بقياس على جسيم،و تنهار* الموجة فإن الحالة المحددة التي يظهر فيها الجسيم هي عشوائية بشكل كامل،حسب تفسير كوبنهاغن. فالاحصاءات هنا لا تصف الواقع فحسب،بل هي الواقع. لكن برغم قوة تفسير كوبنهاغن على إعطاء تفسير فعال للقيام بالحسابات ضمن ميكانيك الكم فإن فكرة أن الجسيم لابد أن يكون موجودا في مكان محدد سواء قمنا بالقياس أم لم نقم به هي فكرة راسخة وبديهية بالنسبة للكثيرين وليس من السهل التخلي عنها. فآينشتاين أطلق جملته المشهورة "أن الله لا يلعب النرد" ليظهر استغرابه من فكرة قدرتنا على حساب احتمال وجود الجسيم في مكان ما بدلا من قدرتنا على تحديد مكانه تماما وكان قد عمل لفترة ما على تطوير نموذج دعاه "الموجة الشبحية" بصورة حاول أن يجعلها أكثر كفاءة من فرضية دي بروي. أما الفيزيائي الشهير موراي غيل-مان احد من وضع نموذج الكواركات ذكر في المحاضرة التي ألقاها عام 1976 عند حصوله على جائزة نوبل أن نيلز بور غسل أذهان جيل كامل من الفيزيائيين لجعلهم يعتقدون أن مشكلة الوجه الاحتمالي لميكانيك الكم قد حُلّت.

و يقول دافيد غريفيث عن تفسير كوبنهاغن في كتابه الشهير والذي يتم تدريسه في الجامعات على نطاق واسع (مقدمة الى ميكانيكا الكم) "لقد صمد في وجه الزمن و خرج سالما من كل تحدٍ تجريبي" و مع ذلك يتابع حديثه قائلا "و انه لممكن جدا أن الأجيال المستقبلية سوف تنظر الى الوراء،من نقطة يكونون فيها مشرفين على نظرية اكثر تعقيدا،و يتسائلون كيف كان لنا ان نكون بهذه السذاجة".

"ان عمل يفيس كاودر و العمل القريب له من قبل جون بوش يؤمن إمكانية فهم ظواهر كمية كانت غير مفسرة سابقا منها فكرة (مثنوية الموجة-الجسيم)،بطريقة كلاسيكية و مفهومة اكثر" يقول كيث موفات و هو بروفيسور فخري في الفيزياء الرياضية في جامعة كامبريدج "أظن أنه عمل رائع،أحد أهم التطورات في ميكانيك السوائل لهذا القرن"

* انهيار التابع الموجي: توصف حركة الجسيمات بتوابع موجية تُظهر الجسيم كموجة منتشرة في الفضاء. ولكن عند قياس الجسيم تختفي هذه الموجة أو تنهار ليظهر الجسيم "آنيا" في مكان محدد.

المصدر: هنا

حقوق الصورة: Dan Harris