منوعات علمية > منوعات

لغتنا... طوق النجاة

أستطيع أن أعيش وحدي على جزيرة مهجورة وعندها لن نحتاج لتبادل الحديث. وأستطيع أن أخبز رغيفاً في قريتي الصغيرة دون أن أدعوك للعشاء، لكنني لا يمكن أن أشاركك وليمتك دون أن أقرأ بطاقة دعوتك. يصلني أيضاً صدى أغنيتك من بعيد لكن ما أتوق إليه حقاً هو فهم كلماتها لأحكي لشعبي قصّةَ حضارتك. في اليوم العالميّ للغة العربيّة أحببنا أن نحتفي باللغة على طريقة "الباحثون السوريون"، حيث سنقدم لكم مقالاً يلخِّص دراسةً مميَّزة لمكانة اللغات المختلفة في وقتنا الحاضر عن طريق دراسة ترجمات الكتب ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعيّ.

في بداية هذا المقال لا بدّ لنا من وقفةِ عرفانٍ بالجميل للغتنا العربيّة الفاتنة ولحروفها الأنيقة التي رافقتنا طوال حيواتنا الشخصيّة، والموغلةِ قِدماً في تاريخنا البعيد الذي حمل انتصاراتٍ وخسارات، أفراحاً وآلاماً لا تحصى، نهضاتٍ وكبوات. وبانتظار نهضتنا الجديدة كيف لنا أن نُغفل ما كان وما يجب أن يكون من أثرٍ للترجمة في بناء مستقبلٍ أفضلَ لإنسانٍ عربيّ أكثر وعياً وتقدماً وعلماً وإنسانية. ولنبدأ مهمتنا لا بدّ أن نَعرف موقعنا حالياً بين بقيّة لغاتِ العالم من حيث كمّ الكتب والبيانات المترجمة من وإلى لغتنا وبقيّة اللغات.

تتفاوت أهمية اللغات عالمياً تفاوتاً هائلاً لأسبابٍ تاريخيّة وديموغرافيّة وسياسيّة وبسبب القوى التكنولوجيّة. وفيما خلا بعضَ القياسات البسيطة للتعداد السكانيّ والقوّة الاقتصاديّة وعلاقتها بتطور وانتشار اللغة، لا توجد طريقةٌ كميّة دقيقة لتحديد التأثير العالميّ للغات. وهنا تتوارد أسئلة كثيرة على ذهن الراغب في دراسة هذا التأثير. فما الذي يجعل لغةً ما مهمةً على المستوى العالميّ؟ أهو قِدمها؟ أم عدد المتحدّثين بها؟ ماذا عن كونها الأكثرَ قدرةً على الوصول للناس عبر الترجمة؟ تمكنت قلّة فقط من أصل العديد من اللغات التي تحدّث بها سكان الأرض من احتلال مكانةٍ عاليةٍ تجعل منها لغاتٍ عالمية.

قام فريق أبحاثٍ متعدّد الاختصاصات بقيادة الباحث César Hidalgo من معهد MIT، وبالتعاون مع جهاتٍ أخرى، بتفحّص لغات العالم وتصنيفها حسب انتشار ترجمة بعض أنواع وسائل الإعلام إلى لغاتٍ أخرى ضمن مشروع سُمّي بشبكة اللغات العالميّة Global Language Network. وبدأ الباحثون مشروعهم بتشكيل هذه الشبكة من خلال تحديد مصادر وسائل الإعلام التي تمت ترجمتها إلى عدّة لغات، وهو عمل تضمّن تحليلَ بياناتٍ من الكتب وموقعَيْ ويكيبيديا وتويتر. بالنسبة للكتب التي فحصوها فقد شملت 2.2 مليون كتاباً مثلت أكثر من 1000 لغة. وأنشأوا خريطة بياناتٍ ربطوا فيها بين الكتب المترجمة من لغة إلى أخرى. حلّلوا أيضاً مقالاتٍ على موقع ويكيبيديا حررها أشخاصٌ حقيقيون وليس تلك المحرّرة آلياً وذلك بهدف معرفة ما إذا كان المحرر يستخدم لغاتٍ متعددةً للكتابة. أما فيما يخصّ بيانات التويتر فقد تشكّلت من تغريدات 17 مليون شخص في 73 لغة مختلفة. وبالمثل فقد تمّ الربط في خريطة البيانات بين أيّ لغتين (أو أكثر) استخدمهما مستخدم التويتر ذاته. وتوضّح الخريطة ارتباط اللغات بعضها ببعض بحيث ترمز الخطوط الأثخن إلى الصلات الأقوى. ويوفّر الموقع الإلكترونيّ لمعهد MIT نسخةً تفاعليّة من هذه الخريطة بالإمكان الإطلاع عليها بتفاصيلها من هذا الرابط: هنا

واحتلت اللغة الإنجليزيّة بلا منازع الصدارة كأكبر مصدر للمعلومات المترجمة من لغة إلى أخرى في مجموعات البيانات الثلاث كلها (الكتب وموقعي ويكيبيديا وتويتر). وتليها لغاتٌ أخرى كالفرنسيّة، فالألمانيّة، فالإيطاليّة، فالروسيّة، فالإسبانيّة كمصادر كبرى للمعلومات ولكنها لا تتفوّق على الإنجليزيّة. ومن الجدير بالملاحظة في هذه الدراسة كونُ اللغة العربيّة التي يتحدث بها 530 مليون شخص حول العالم احتلت المركزَ التاسعَ عشر من أصل 247 لغة في خريطة البيانات الخاصة بترجمة الكتب، حيث بلغ عدد الكتب المترجمة من اللغة العربيّة إلى لغاتٍ أخرى 11884

كتاباً، وعدد الكتب المترجمة إلى العربيّة 12488 كتاباً وهي أعداد لا يستهان بها حيث تفوّقت اللغة العربيّة على اللغة الصينيّة التي يبلغ عدد الناطقين بها حوالي ثلاثة أمثال عدد الناطقين بالعربيّة. وبالمقابل كان عدد الكتب المترجمة من الإنكليزيّة 1225237كتاباً وبلغ عدد تلك المترجمة إليها 146294 كتاباً.

ينوّه قائد هذه الدراسة إلى أن كونَ أكثرِ من 50% من أشكال التواصل على الإنترنت باللغة الإنجليزيّة لا يُعتبر انحيازاً لهذه اللغة، بل يدل على قدرة اللغة الإنجليزيّة على خلق الروابط بين البشر مهما كانت لغتهم، وربما لهذا السبب تهيمن اللغة الإنجليزيّة اليوم على الإنترنت الذي هو الوسيلة الأساسيةّ للتواصل بين الناس في هذا العصر. فالقدرة على التواصل مع عددٍ أكبرَ من الناس تمنح قدراً ما من السلطة لأنها تجعل التأثير على عددٍ أكبر من الناس ممكناً. وفي الواقع أتت النتائجُ مطابقةً للتوقعات حيث كان عدد الأشخاص المشهورين أعلى ما يمكن في الدول المتحدثّة باللغات التي تصدّرت شبكات الدراسة، مما يشير إلى أن مكانة اللغة تتناسب مع أهميّة متحدّثيها ومع الانتشار العالميّ لنتاجهم الحضاريّ.

ما نفهمه من هذه الدراسة هو أن الطريق أمامنا طويلةٌ وشاقّة حتى تصل لغتنا إلى "العالميّة". ولتحقيق هذا الهدف، وأخذاً بعين الاعتبار ضعفَ المستوى العام للبحث العلميّ في الوطن العربيّ وضعفَ التنسيق بين جهود الترجمة المبذولة، لابدّ من البدء ببناء قاعدة بياناتٍ ضخمة باللغة العربيّة

توفّر لنا ما سبقتنا به الشعوب الأخرى من علومٍ حتى نتمكّن كخطوة أولى من بناء العقليّة العربيّة العلميّة. ولا تقتصر أهميّة الترجمة على نقل العلوم التطبيقيّة بل تتعدّاها إلى نقل الفنون والآداب والفلسفة وغيرها من جوانب المعرفة.

ومن الجدير بالذكر أن اليوم العالميّ للغة العربيّة للعام 2014 سيُخصَّص للاحتفال بالحرف العربيّ ذي الرسم المميَّز المُحرِّض على الحب والفن والذي ألهم الكثير من المبدعين لينقشوا به أعمالاً رائعة الجمال، والذي به "سنعيد كتابة العلم بأبجديّة عربيّة".

رابط لمقال سابق عن الحرف العربيّ في الفنّ

هنا

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا

4- هنا

مصدر الصورة: هنا