الموسيقا > موسيقا

الجزري ... والموسيقى المائية

ننظرُ إلى الماءِ المتلاعبِ والمتألّق، فيسرُّنا التمتع بجمالِه وتسعدُ آذانُنا بخريره الرّاقي، حيثُ الأرضُ والسماءُ وكلُّ الكائناتِ بحاجتِها، فتغدو الجداولُ والأنهارُ موسيقى طبيعية تشدُّ انتباهنا في الرّبيع، جوقةٌ موسيقيةٌ مميزة، لعلّ هذا ما حَدِيَ بالناس أن تسمعَ هذه الموسيقى في بيوتِها منذ زمن، اشتُهر الفراعنةُ القدماءُ بشقّ الأنهارِ والتّرعِ وبناءِ القصورِ التي تدخلُها الماء، كما أن الرّومان كان لهم إسهامُهم في ما يتعلّق بصناعةِ النافوراتِ وعزفِ الموسيقى بجانبِها، حتى الإغريقُ والفينيقُ اشتهروا بموسيقاهم المميزة على وقعِ خرير المياه، واستمرت هذه الأعمالُ حتى نهوضِ الحضارةِ الإسلامية، حيث يخوضُ روّادُ المنهجِ التجريبي غمار الإبداع في الموسيقى، حيث سمعنا بزريابَ وأبي القاسم الموصلّي وأصواتٍ جميلةٍ من النساء والرجال، وإضافاتٍ على الآلاتِ الموسيقية لم تشهدْها حضارةٌ في ذلك الزمان، يُنشدون ونافورةُ الماءِ تصدحُ جمالاً بمهندسين مبدعين من شتّى البلاد، من بغداد ونيسابور ودمشق وحلب والقاهرة والأندلس والمغرب، لكنّ مهندساً واحداً كانت له رؤيةٌ أخرى لمشهدِ الماء والموسيقى.

لقد كانت فلسفةُ بديع الزّمان أَبي العزّ بن إسماعيل بن الرزاز الملقّب بـ "الجزري" تقضي أن تكون الهندسةُ المعقدةُ مرسومةً مبسّطة، تفيدُ الناسَ وتنفعُهم وتدخلُ قلوبَهم قبل عقولِهم، مع التأكيد على قيمةِ المسنّنات والكفّات والرافعات، فلا داعي للطاقةِ المدفوعة من الكائناتِ الحيّة طالما يمكن توليدُها من مصادر صناعية غير مزعجة ومفيدة، كالماءِ مثلاً، فلا يوجدُ لديه اختراعٌ لا يدخل الماءُ فيه، فكان مهندسَ الماءِ بامتياز، لا بل ساحرَ الماء!

كيف كان يحرّكُ الماء من الأسفل إلى الأعلى؟ لقد كان لساعةِ الفيل وقناةِ المياهِ في قلعةِ صلاح الدين في القاهرة، الأثرُ الأكبرُ في كشفِ حُسن إدارة الماء في ذهن الجزري، فَلِلْماءِ شروطٌ خاصةٌ في الصعودِ والنزولِ والضغطِ والموادّ التي يمرُّ بها، فكان لا بدّ من نقلةٍ نوعيةٍ في علومِ الهندسة، حيث سجّل، ولأوّل مرةٍ في التاريخ، اختراعَ محوّل الحركة المستقيمة إلى حركةٍ دورانية، نعم تلك الموجودة في محرك السيارات! حتى يستفيد من ضغطِ الماء ويُلين من صعوده وهبوطه، فكانت إبداعاً لم يكن له مثيل.

ظهر بعدها كتابُه للعلن، فيه من الإبداع والمشاريع ما يكفي لأن يسلبَ العقل، فلم يترك مجالاً من مجالاتِ الحياة لم تدخلها اختراعاتُه، كلّها بدمج الماء والميكانيك والفنّ والحب، فكانت ساعةً، وآلةً وضوء، وطاحونةَ ماء، ورافعاتٍ مبتكرةٍ لجرِّ الماء من أسفل الأرض إلى أعلاها، وكان أيضا للموسيقى والفنّ بابٌ كامل.

وُلدَ الجزريُّ في مدينة ديار بكر في شمالي بلاد الشام، حيث البيئة الطبيعية الخلابة، تلهمُ الظمآن للمعرفة، وأَوْلاهُ بنو أرتق حكّامُ ديار بكر العنايةَ الفائقة، ووفّروا له كلّ متطلباتِ البحثِ العلمي، حتى أنّ إلهامَ هذه الآلة بالذّات كانت من مجالس الطّرب مع بني أرتق.

وبينما كنت أقلّبُ المخطوطَ الأصليّ لكتابه "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل"، إذا بي أقرأُ في وصف تلك الآلة العجيبة: "الشكلُ الرابعُ من النوعِ الثاني، وهو زورقٌ يُوضعُ في بركةٍ في مجلسٍ للشرب وينقسمُ إلى فصولٍ ثلاث، الفصل الأول وفي صفةِ طاقمِ صورةِ الزورق ومفادها أقول: كلّفني من لم أستطع مخالفتَه أن أعملَ زورقاً عليه صورةُ بعض نُدمائِه وصورةُ جماعةٍ من مطرباتِ مجلسِه عمالات. وحيثُ لم أجد سبيلاً إلى إدخال شيءٍ من الماء إلى الزّورق ولا إخراج شيءٍ من الماء إلى خارج الزّورق، عملتُ ما أصفُه، وهو زورقٌ لطيفٌ متخد من خشبٍ وأعلاهُ منطبقٌ وعلى كوْثله دكةٌ عليها قبة وعلى الدّكة صورةُ الملك جالساً وعن يمينه حاجبه قائماً دون الدكة وعن شماله حامل السلاح. وبين يديه غلامٌ في يده قرابةٌ وقدحٌ وكأنّه يسقي ودونَ ذلك صورُ جماعةٍ من الندماء جُلوسٌ عن اليمين وعن الشمال وبين أيديهم وفي أيديهم أشياءٌ من أواني الشراب وعلى كوثل الزورق دكة قبالة الملك عليها زامرةٌ ودفية وجنكية ثم دفية. وما وراء الدكة والجواري ملاّحٌ قائم بيده سكان الزورق وعلى حافتي الزورق ملّاحان بأيديهما مجذافان. وهذه صورة الزورق وما عليه".

إنّه أشبه ما يكون بالدمى أو الروبوتات أليس كذلك؟

في هذا الاختراع تكونُ هذه المجسّمات أو الصور التي نحتها من الخشب لأشخاصٍ يتحركون، أحدهم يصبّ العصير، والآخر يحرك المجذاف، والفتيات يعزفْن على الآلات، ما هي إلا مكوناتٌ داخل عالم من المسنّنات الكفّات والمصبات وناقلات الحركة المتكاتفة على بعضها البعض بسحر الهندسة الميكانيكية الأخّاذ.

تبدأُ حركة القارب من عند الرّجُل الذي يقبض على ذيل القارب في الجزء الخلفي منه، فيحركُ يدَه حركةً مستقيمةً باتجاهين يميناً ويساراً، والذيلُ هنا عبارةٌ عن ذراع خشبية تتحركُ لتملأَ حجرةَ المياهِ من البحيرةِ التي يطفو عليها القارب، تتموضعُ تلك الحجرة تحت قدمي المجذّفين، حيث يوجدُ وعاءٌ نصف كرويّ على منزلق، ما أن تمتلِئَ المياهُ في هذا الوعاء حتى ينزلقَ وينسكبَ ماؤُهُ ضمن صندوق، وما أن يفرغَ من الماء حتى يعودَ الوعاءُ إلى مكانه، وبالتالي يُسكبُ الماء على دفعاتٍ ضمن هذا الصندوق ما يعني حركةً متواترةً بشكلٍ زمنيّ منتظم، ولهذا الصندوقِ ثقبٌ من جانبٍ واحدٍ ينفذُ منه الماءُ إلى عنفةٍ بها كفّاتٌ وهي أهم مميّزات اختراعات الجزري، وبما أنّ الماءَ ينسكبُ في الكفّات، فتدور تلك العنفة، محدثةً في دورانِها تحويلَ الحركةِ المستقيمةِ إلى حركةٍ اهتزازيةٍ ومن ثمّ إلى حركةٍ دورانية، كما هو الحالُ في سيجمانات محرّك السيارة، (إن لم يكن الجزري هو صاحب فكرة السيجمانات من الأساس والتي تحوّل الحركة الدورانية إلى حركة اهتزازية ومن ثم إلى حركات أخرى مستقيمة ودورانية)، تلك الحركةُ الاهترازية متصلة بأذرع المغنّيات على ظهر القارب في الجزء الأوسط منه، حيث يحملنَ الآلاتِ الموسيقية كالدّفوف والأعواد والقيثارات، وبناقل الحركة الذي يتم إضافتُه لمحرّك القارب، فممّا لا شكّ فيه أن العازفات سيعزفنَ مقطوعاتٍ متنوعةً وكثيرة. وفي قضية ناقلِ الحركة أيضاً، يذكرُ الجزري أنّ العازفاتِ على قاربِه يمكن أن يعزفْنَ 50 مقطوعةً مختلفةً تتغيرُ من تلقاءِ نفسها.

إنّ الموسيقى الشرقية تتميزُ بأسلوبها في المقاطع المنتظمة القابلة للتكرار (Rhythm) وهذا ما سهّل عملياً إيجاد آلةٍ ميكانيكيةٍ تعزفُ نوتةً موسيقيةً أغلبُ الظنِّ أنها تكرارية، بحيث يكون هناك مقطعٌ تعزفُهُ العازفاتُ لمدةٍ محددةٍ وتكون هي طورَ دورانِ المحركِ في داخل جسم القارب دورةً واحدة، ومن ثم تعيد النوتةَ الموسيقية نفسَها، إلى أن يقومَ الجالسُ في كرسيّ الملك بتغير ناقل الحركةِ الذي افترضت إضافته إلى محرّك القارب، وعليه فالقارب لا يطفو وإنّما تحرّكهُ المجاذيفُ المربوطةُ بحركةِ العازفات، وكأنّ الجزريّ يريدُ أن يقول أن القاربَ تحرّكهُ الموسيقى نفسها.

لقد ألهم هذا الزورقُ وعلى مرّ السنين العديد من الأشخاص في تصوّر حجم التقدّم الفنيّ والعلميّ في آنٍ معاً في تلك الفترة، تخيّل لو أن فكرة محرك القارب هذا، كانت في غرفةٍ يتدفقُ الماءُ من تحت بلاطِها ويكون في ساحة الغرفة النُّدما كما سماهنّ الجزري، وأنت جالسٌ في مجلسك وحولك الضيوف تأمرُ الحاجبَ: "يا فتى! حرّك بالماء نيران الهوى"!، وإلى جانبك ذراعُ ناقل الحركة فتغيّر الموسيقى كما تشاء، أليس هذا روبوت عجيب؟ إنه موجودٌ عند المسلمين خلال حقبةِ العصور الذهبية للعقول الراقية.

يُمثّلُ هذا الزورقُ من حيث الفكرة قمّة الرقي الفني، فهنا لا يحاول الجزريّ تأطيرَ موهبةِ العازفِ وإنما يحاولُ منحَ الإنسان تجربةً فريدةً في رؤية الآلة الموسيقية متناغمةً مع الماء على سطحِ بحيرةٍ هادئةٍ حيث لا أحد غيرُك يستمتع بهواءٍ عليل، وموسيقى جميلة، تجلسُ في مقدمة القارب حيث روبوت آخر يسكبُ العصير في كأسك كلّما طلبت ذلك.

مفهومُ الرفاهية والحياة الهانئة ليس مفهوماً حديثاً أو دخيلاً، بل هو قديمٌ جداً! فحيث يتوفّرُ الفن الراقي والعقل السليم، لا بدّ لرغبةِ وغريزةِ الراحة والمتعة أن تطفو، وما كان هكذا اختراعٌ أن يخطر ببال الجزريّ لولا مرحلةُ الاحترام الموسيقي وتقدّمها في الحضارة الإسلامية.

شرحَ الجزريّ آلتَه واختراعَه هذا في فصولٍ طويلةٍ جداً وأسهبَ كثيراً في شرحِ مفهومِهِ لآليةِ عملِ الكفّاتِ ومحوّل الحركةِ من المستقيمة إلى الدورانية وبالعكس، ولا أخفيكُم أنه قد استغرقَنا في تحضير هذا المقال فترةَ أسبوعين نتيجةَ قلةِ المؤلفاتِ عن اختراعاتِ الجزريّ، فاضطررنا للعودةِ إلى المخطوطِ الأصليّ والذي لم نستطع أيضاً الوصولَ إلى نسخةٍ محققةٍ منه، وللأمانة هناك نسخةٌ واحدةٌ محققّة وهي نسخةُ معهدِ التراثِ العلمي العربي، وبتضافر الجهود من أعضاء عدة فرق في التاريخ والموسيقى والهندسة، استطعنا الخروج بهذا المقال، حيث أن الجزري كان مفهومه الهندسي عميقاً جداً لا يمكن فهمُه بتلك السهولة والبساطة، دون الرجوع إلى التاريخ ومن ثم إلى رأي الهندسة ورأي الموسيقى.

نجد فيما يلي فيديو توضيحي لآلية عمل هذا الاختراع:

Al Jazari’s musical boat from MTE Studios on Vimeo.

وإليكم مجموعة من الصور التوضيحية لهذا الاختراع مأخوذة من المخطوط الأصلي:

ولازلت أفكّر في إضافاتٍ على هذا الاختراع عدا عن موضوعيْ ناقل الحركة والغرفة، كأنها سيارة قديمة موجودة في مرآب بيتي أتخيلُ إضافاتِها، ماذا لو كان الجزريّ موجوداً في عهدنا هذا؟ أدرك الهيدروليك، وقوة الضغط والدفع، هل كنا سنشاهد جوقة موسيقية كاملة ونوتة غير تكرارية فريدة؟ وفالس لباخ يعزفُ على قاربٍ يتحركُ ميكانيكياً بطاقةِ تدفقِ الماءِ على مجموعة من المسنّنات والكفّات ومحوّلات الحركة؟ من يدري ما كان سيخطر بباله، لعله سيكون أمامنا الكثير من الوقت كي ننظر ونتأمل حجم هذا الاختراع، حتى نفهم التاريخ والعلم والموسيقى والهندسة بطريقة أفضل.

مصادر:

الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل/ بديع الزمان أَبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الملقب بالـ الجزري (1136-1206)

ألف اختراع واختراع: التراث الإسلامي في عالمنا/ سليم الحسني. مانشستر: منظمة العلوم والتكنولوجيا والحضارة، 2006. أبو ظبي: مؤسسة أبو ظبي للإعلام، 2011.

هنا