منوعات علمية > العلم الزائف

رسائل الإعلام الخفية واستجابة عقولنا لها بين العلم والخرافة

هل سمعتم من قبل عن الرسائل الخفية؟ سنقدم لكم في هذا المقال الممتع أشهر الأمثلة التي يشاع أنها قامت باستخدام هذا المفهوم، وكذلك سوف نستعرض التجارب العلمية التي أجريت عن استجابة الناس للرسائل الخفية، في محاولة لنفهم ما يحدث حقاً على قنوات الإعلام وفي أدمغتنا.

تم الترويج لفكرة الرسائل الخفية بل وإثارة ذعر الناس منها بشكل ممنهج، فعلى سبيل المثال ظهرت في الأعوام السابقة سلسلة وثائقية على شبكة الانترنت تتبنى فكر "المؤامرة"، وتتحدث في بعض حلقاتها عن أسلوب "الرسائل الخفية" Subliminal Messages الذي استخدمته شركة لإنتاج الرسوم المتحركة سعياً منها لدعم مشروع المؤامرة بشكل خفي.

ومن الحوادث التي ترتبط بهذه الفكرة ما حدث أثناء حملة جورج بوش الانتخابية في العام 2000 في أميركا، حيث ظهرت كلمة Rats أو جرذان على شاشة طرقية لحملته فأضاءت لأجزاء من الثانية قبل أن تختفي مع كامل الكلمة DemocRats من الشاشة، مما فتح النار عليه باعتبارها إهانة لمنافسيه من الحزب الديمقراطي واعتبرها الإعلام على أنها رسالة خفية ومدسوسة تهدف للإساءة لمنافسيه.

وربما سمع معظمنا عن تقنية Backmasking التي استخدمتها فرقة البيتلز الموسيقية كنوع من المزاح ربما، وربما للترويج لموسيقاها أيضا، حيث تم تسجيل الموسيقى بحيث تسمع عبارات واضحة إن قمت بشغيل الأغنية بشكل معكوس، وقد ازدادت شعبية هذا المفهوم حين أصبح الناس يستمعون بشكل معكوس إلى الأغاني التي لم يتم تسجيلها بهذه التقنية ويلتقطون بعض الجمل الغريبة من الضجيج كما حدث في حالة الطالب الذي اعتقد أن الأغنية تقول أن أحد أعضاء البيتلز مات وبالتالي أثار بعض الذعر. اتهمت هذه الحيلة لاحقاً بأنها وسيلة لدعم مشروع المؤامرة، واعتبرت أحد أساليب الرسائل الخفية التي تنفذ إلى العقل الباطن وتؤثر فيه برغم عدم وجود أي دراسة تدعم ذلك التأثير أو تدعم أن المعنى المعكوس قد يصل بدقة لعقلك سواء الواعي أو اللاواعي أصلاً!

يبدو أن لأسلوب الرسائل الخفية هذا دور ما في جميع المجالات، فسوف تجد دوماً من يتحدث عنه، بدءا من السياسة والمعتقدات، مروراً بالإعلانات والتسويق، وانتهاء بالرسوم المتحركة. ومن الجدير بالذكر أننا لا نسعى في هذا المقال إلى اتهام جهة أو شخص ما ولا إلى تبرئته، وإنما نودّ فقط توضيح ماهية ما يسمى الرسائل الخفية وتوضيح مدى تأثيرها.

تعني كلمة Subliminal حرفياً: "أدنى من العتبة". وعندما نقوم بوصف مؤثرٍ ما بأنه "Subliminal" أي خفي أو مموّه فهذا يعني أن المتلقي لا يدرك وجوده. يكمن السبب في ذلك أنه أُخفيَ بطريقة أو بأخرى أو عُرض لفترة وجيزة جداً بحيث لم يعد بوسعنا أن نلاحظه، وأتحدث هنا عن 0.003 ثانية، أي عن ثلاثة أجزاء من الألف من الثانية، وهي الفترة اللازمة لعرض مؤثر دون أن يدرك المتلقي وجوده.

بدأ النفور من الرسائل الخفية في العام 1957 حين ادعى كل من James Vicary وFrances Thayer أنهم قاموا باستخدام أسلوب الرسائل الخفية في عرض عبارات مثل "قم بتناول البوشار" و"اشرب الصودا" خلال عرض سينمائي، لترتفع مبيعات البوشار بنسبة 58%، وترتفع مبيعات الصودا بنسبة 18%. وهي نسبة جيدة جدا من مجرد عرض عبارات بسيطة كتلك. تبع ذلك قيام Packard بنشر كتاب "The Hidden Persuaders" والذي ناقش فيه كيفية قيام أصحاب الإعلان بالتحكم بالمستهلكين عن طريق إثارة رغباتهم في اللاوعي، مع ضرورة ان نلاحظ أن هذا الكتاب لم يتضمن أيّ تجربة علمية موثقة بل مجموعة من آراء المؤلف نفسه ورواية اشخاص عن تجارب غير موثقة ولا علمية. صوّر الكتاب المستهلك كدمية متحركة يتحكم بها أصحاب الإعلان، ولاقى شهرة كبيرة وزرع الذعر بين الناس، فإن كانت ادعاءات الكتاب صحيحة فأنت إذاً ضحية لتلاعب كبير: تضع أموالك في جيوب الآخرين بكامل إرداتك، تشارك بالانتخابات بمجرد أداء شكلي تنفذ فيه ما زرعه الآخرون في مخيلتك دون تعي ذلك، وشكوكك لن تجديك نفعاً، فكيف تشكك بما لا تدرك وجوده؟

هل يبدو هذا مخيفاً؟ نطمئنك أن هذا الذعر لا أساس له من الصحة، فقد قام أصحاب تجربة البوشار والصودا لاحقاً بالاعتراف أن روايتهما كانت مجرد خدعة هدفت لإنقاذ شركة Vicary التسويقية من الإفلاس، بالإضافة إلى وجود بحث قانوني قام بدحض ادعاءاته. أما Packard فلم يكن سوى شخص يهوى تهويل الأمور ليبيع المزيد من كتبه فقط. وعلى الرغم من ذلك، وكعادة إشاعات العلم الزائف، فقد ظلت الفكرة في رؤوس الناس صامدة تأبى الزوال. فهل يعني ذلك أن القصة انتهت ولا أساس لها من الصحة؟ حتى الآن، لم نحصل على جواب لأننا لم نبدأ بتقديم المعطيات العلمية، والتي –للمفاجأة- تقول أن فكرة "الرسائل الخفية" قد تكون أكثر من مجرد خدعة!

بعيداً عن الخداع والخرافات ونظريات المؤامرة الخيالية، يقول العلم أن الرسائل الخفية قد تؤثر فيك فقط إذا ارتبطت بحاجة بيولوجية موجودة أصلاً لديك أو بأمرٍ ذي تأثير إيجابي عليك. على سبيل المثال؛ أثبتت دراسة أن العرض السريع لكلمات "عطش" و"شرب" على شاشة الكمبيوتر سيجعل من يرونها يقومون بشرب المزيد من السوائل، لكن هذا يحدث فقط في حال كان الخاضعون للتجربة يشعرون بالعطش أصلاً، أو في حال عُرضت هذه الكلمات مع كلمات أخرى ذات تأثير إيجابي بالنسبة للخاضعين للتجارب.

كما أثبتت تجربة أن بالإمكان أن يعالج الدماغ المعلومات التي يتعرض لها وهو غير واعٍ حتى أثناء النوم، أنظر المقال هنا

إذن فالرسالة الخفية لن تسيطر على رغباتك أو تعكسها وتزرع في عقلك الرغبة بالقيام بأشياء خارجة عن إرادتك، إن الأمر أشبه بأن تكون مستعدا بطريقة أو بأخرى لتلقي هذه الرسائل، كأن تكون محروما من شيء ما أو بحاجة لأمر ما، وعلى هذه الرسائل فقط أن تقوم بتعزيز هذه الحاجة وتذكيرك بها، أو تقوم بإرضاء رغبة أو فكرة موجودة لديك أصلاً.

في العام 1990، قامت عائلتان أميركيتان برفع دعوى على إحدى فرق الميتال تتهمهم فيها بأن أغنياتهم تضمنت رسائل خفية كانت السبب وراء انتحار شابين من كل عائلة. واحدة من هذه الادعاءات هي أن أحد الأغاني كانت تضم رسالة خفية تقول Do it ! وزعمت بأنها حفزت الشابين نحو الانتحار. هذا بالإضافة إلى أغنية أخرى تضمنت كلماتها عبارات مثل "دع العالم بخطيئته، إنه ليس مكانا مناسباً للحياة". ليس من المفاجئ طبعاً أن انتهت القضية بتبرئة الفرقة، فقد تبين أن كلا الشابين كانا يمتلكان سجلاً إجرامياً بالإضافة لمشاكل البطالة، وتاريخ عائلي من العنف المنزلي وإساءة معاملة الأطفال. ناهيك عن أنهما انتحرا بعد قيامهما بتدخين الماريوانا وشرب الكحول لساعات، مما يعني هذا أن فكرة الانتحار والدوافع لتنفيذه كانت موجودة أصلاً، وبالتأكيد لم تكن الأغاني هي السبب. أيضاً لنسأل أنفسنا: لماذا قد تقوم شركة أغاني بتحفيز زبائنها على قتل أنفسهم وبالتالي تقليل مبيعاتها؟

من جهة أخرى وفي سياق الدراسات والبحوث في هذا المجال؛ فقد أظهر بحث بأن المؤثر الذي "يدرك" الناس وجوده قد يعطي أثرا "لا" يدركونه على سلوكهم. على سبيل المثال، ظهر أن الزبائن يشترون المزيد من النبيذ الألماني عند سماع الموسيقى الألمانية في المتجر، بينما يشترون المزيد من النبيذ الإيطالي عند تشغيل الموسيقى الإيطالية. وعند سؤال الزبائن عن الأسباب التي دفعتهم لاختيار نوع معين من النبيذ؛ لاحظ القليل جداً منهم أن السبب هو الموسيقى، مما يعني ذلك أنهم وعلى الرغم من استماعهم للموسيقى وتمييزهم لأصلها إلا أن معظمهم لم يدرك أنها أثرت على سلوكه. ولكن ماذا يحدث لو أخبرنا الزبائن بأن سماع الموسيقى سيؤثر على اختيارهم؟ إنهم عندها لن يختاروا نفس الأصناف ليس عناداً أو مخالفة بل لأنهم ببساطة أدركوا هذا التأثير.

وأظهرت دراسة أخرى أن الناس إن شاهدوا غيرهم يأكل البوظة فإنهم إن تمكنوا من شراء البوظة فسيأكلون ذات الكمية شاهدوها. وبالتالي من الواضح أن استهلاكنا قد يتأثر بالفعل من غير وعينا، وهذا بسبب مؤثر لا ندرك وجوده، أو ندرك وجوده لكن لا ندرك أثره.

طبعا لا يزال عدد هائل من الناس يؤمن بأن الرسائل الخفية تجبرنا على عمل أشياء خارجة عن إرادتنا، رغم أن هذا مجرد خرافة.

أجل، الرسائل الخفية موجودة، وأجل، هي مصممة لتؤثر علينا في اللاوعي وقد تستطيع فعل ذلك، لكنها ليست بهذه القوة ولا بهذه الخطورة؛ فهناك فرق كبير بين تذكير شخص عطشان بأن يشتري شراباً متوفراً في كل مكان، وبين جعل مرتادي السينما -برغم أنهم لا يشعرون بالعطش- يشترون المزيد من الصودا، ناهيك عما يتداوله البعض من المبالغات بأن الرسائل الإعلامية قد تجعلك تفعل شيئاً معاكساً لطبيعتك ورغباتك.

يتم استعمال بعض "المؤثرات" بشكلٍ شائع، ولكنها ليست خفية ولا سريّة بل على العكس فعلى سبيل المثال هل كنت تعلم أن أحد أهداف تشغيل موسيقى Upbeat في المطاعم هي لجعل الناس يتناولون الطعام بشكل أسرع؟ وبالتالي إتاحة الفرصة للمزيد من الزبائن وزيادة وتيرة ارتياد المطعم.

ما نود قوله في هذا المقال هو أنه لا داعي للقلق من أنك قد تفعل أموراً لا تود فعلها أو من أن تنفق أموالك حيث لا تريد، فأقصى ما بوسع هذه الرسائل أن تفعله هو أن تجعلك تقوم بشراء أشياء أنت تميل إلى شرائها في جميع الأحوال. أضف لذلك أن اهتمامك بما يدور حولك سيخفف من أثر المؤثر الخفي على سلوكك. اطمئن عزيزي القارئ، فأنت لست "زومبي" يمشي بلا وجهة، ولست شخصا تعرض لغسيل الدماغ حتى تفعل ما يريدك الآخرون أن تفعله، ولا أعتقد أنك ستقف يوما على حافة النافذة لمجرد سماعك أغنية ميتال تقول بأن العالم ليس مكاناً مناسباً للعيش.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

الصورة: هنا