التاريخ وعلم الآثار > شخصيات من سورية

نهاد

"إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا، يجب أن نعرف ماذا في البرازيل"، كذلك إذا أردنا أن نعرف عن "الدراما السورية"، و عمّن رسّخ أخلاقَ المهنة، وشرفَ الكلمة، وصدقَ المعاملة، يجب أن نتعرّف على "حسني البورظان" أو "نهاد قلعي"، القابع في ذاكرة السوريين، ذلك الرجل الطّيب بعينين تفيضان حبّاً وروحٍ سَمِحة أدمنت العطاء دائماً ودونما مقابل.

في أربعينياتِ القرنِ الماضي، لم تكتفِ عائلةٌ سورية بتشجيع ابنها على دراسة التمثيل، تلك المهنة التي لم تكن تندرج ضمن قائمة المهن جيدة السمعة آنذاك، بل قامت بادّخار المال في سبيل إرسال ابنها الموهوب لدراسة التمثيل في معهد الفنون في القاهرة.

شدَّ الشاب رحالَه بعد أن جاء قبولُه في المعهد إلى السفارة المصرية في دمشق، ليُصدم هناك بضياعِ نقوده التي حوّلها إلى الجنيه المصري، وليضيعَ معها حلمهُ وحلم العائلة بأجمعها!

ويبدو أن الأقدار شاءت أن تُفتح الأبوابُ لذلك الشاب في مكانٍ وزمانٍ آخر، وأن يتعيّنَ عليه أن ينتظرَ زمناً ويزاولَ مهناً أخرى ريثما تختمرُ الظروفُ لتتيحَ له دخولَه الأول إلى عالم التمثيل.

إنّهُ نِهاد قلعي، الشهير باسم إحدى أشهر شخصياته "حسني البورظان".

شَهِد حيّ ساروجة الدِمشقي ولادته عام 1928، وتوزّعت أيام طفولتِه بين دمشق و زحلة، حيث كان والده يعمل في البريد اللبناني، ليستقرَ مع عائلته لاحقاً في منطقة المهاجرين، وليصبح ذلك المكانُ مكانَ إقامته حتى آخر أيام حياته.

***

حين نبحرُ في الزمن إلى الوراء، يتراءى لنا نِهاد قلعي طفلاً لا يكفُّ عن الحركة، بطاقةٍ من الفرح تُلهمُه في أن يَحيك المقالبَ لكلّ من حوله، حتّى أن أمّه دعته بـِـ "الجنّي الصغير" حسب رواية عمّه الأديب الدكتور بديع حقّي قلعي.

لقيَ نهاد التشجيع من خاله المسرحيّ البارز توفيق العطري، بعد أن شَهِد تجاربَ ملفتة له في التمثيل على مسرح ثانوية التجهيز بدمشق.

بقيت جذوةُ الموهبة مشتعلةً تحت رماد الخيبة بعد أن فوّت نهاد على نفسه حلم الدراسة الأكاديمية للتمثيل في القاهرة، فبدأ البحث عن وظيفة وليتدرجَ من مراقب عملٍ في إحدى المصانع إلى ضاربٍ على الآلة الكاتبة، وليزاولَ لاحقاً مهنة التخليص الجمركي.

وبعد سنوات من ملاحقةِ موردِ الرزق، يعودُ حلم التمثيل بعد أن قام زملاء نهاد قلعي وكان من أبرزهم المخرج خلدون المالح بتأسيس ما يُدعى بـ "النادي الشرقي"، الفرقة المسرحية التي قدّمت عروضاً كان لنهاد قلعي دورٌ فيها منذ البداية، دوره الأول في مسرحية بعنوان: الأستاذ كلينكوف، وليصبحَ حلم دخول القاهرة للتمثيل واقعاً، إنّما هذهِ المرّة ليس لدراسة التمثيل بل لتقديم عرضٍ مسرحي بعنوان: "لولا النساء"، والذي مهّد بنجاحه الطريقَ أمام عرضٍ آخر في القاهرة وهو مسرحية "ثمن الحرية"، تلك المسرحية التي ألقت الأضواء على نهاد قلعي الممثل والكاتب الذي جعل من نصّ المسرحية التي كانت تروي أحداثاً تجري في أمريكا اللاتينية تتحول لتصبح في الجزائر.

هذا الإسقاطُ الذي صنعه النص الجديد لفت الأنظار للفرقة الحديثة الولادة، فكُلّف على أثرها نهاد قلعي بإنشاء المسرح القومي ليكون هو أوّل مديرٍ له.

شارك نهاد قلعي في تمثيل نصوصٍ متنوعةٍ من الأدب العالمي والكلاسيكي، كما كان مخرجاً برؤيةٍ مميزةٍ نهَلَ من النصوص الشعبية التي كانت ميدانَه المفضل.

شَهدَ الجميع من رفاق نهاد أنّه كان رجل العطاء بامتياز ممثلاً وكاتباً ومخرجاً، ورفيقاً قبل كل شيء، شارك كل من حوله أفراحهم وأحزانهم، نجاحاتهم وخيباتهم، وأعطى بكل نبلٍ وصدقٍ واحترافيةٍ كما لو أنّه خُلقَ ليكون عملاقاً على الخشبة في كل عرض.

المسرح القومي آنذاك كاد أن يُختصر ليكون مكاناً لعرض النصوص الكلاسيكية العالمية، في حين أن نهاد قلعي كان ميدانه المفضل المسرح الشعبي المستمد من الحياة اليومية ببساطتها وعفويتها، والأكثر قرباً للناس والأسرع وصولاً إليهم، وهذه الرغبة بالولوج إلى عالمه المفضل حيث يصبح نهاد قلعي حرّاً في الإبداع جاءت حين كان اللقاء مع رفيق الدرب الطويل، دريد لحّام.

اللقاء أثمر في بداياتِه عن برنامج: "سهرة دمشق"، وهو برنامج تلفزيوني كوميدي أثمر بدوره عن الملامح الأولى لشخصيات قُدّر لها أن تُطبع في ذاكرة السوريين إلى الأبد:

الثنائي الفريد "غوّار الطّوشه و حسني بورظان".

أبدعَ نهاد قلعي الكاتب في رسم الشخصيتين ضمن بيئة عملٍ ضمّت شخصياتٍ متكاملة، جاعلاً منهم لسانَ حالِ كلّ فردٍ في المجتمع.

في براعة الكاتب نهاد قلعي، يقول الناقد محمد منصور: "أدركَ نهاد بموهبته وذكائه الفطري والدرامي وبخياله الخصب أن متعةَ الإبداع هو أن ترسم لنفسك الدورَ المختلف لشخصيتك كي تبدع في الابتعاد عن الذات. وقد كان نهاد وهو يضحّي بالدور الأكثر فاعلية (دور الشرير) من أجل صياغة مناخٍ متكاملٍ ومنسجمٍ بينه وبين دريد على الشاشة، كان قادراً على أن ينجوَ بحسني البورظان من مطبّ السنيد الذي يطبع الشخصيات الطيبة التي تصادق الأشرار وصانعي المكائد. ولهذا كانت الكتابة تقومُ على مبدأ أن المقلب لا يكتمل وأن اللعبة لا تحلوّ مالم تشرب الضحية المقلب وتعبر عن شعورها بطريقة كوميدية".

أثمر التعاونُ بين العملاقين عن محطّات عدّة منها (حمام الهنا) و (صح النوم) و (ملح وسكر)، والذي تحوّل بنجاحه إلى فلم سينمائي حمَلَ نفس العنوان.

الثنائي نهاد ودريد ختما تعاونهما الكتابي بدخول دريد لحام في مسرح الماغوط ودخول الماغوط ككاتب لأعمال الفرقة المسرحية المدعوة"فرقة تشرين".

لكن نهاد قلعي بقيّ وفيّاً لشغفهِ الأول، المسرح، ولرفيق الدرب، دريد، حتى وإن تبدّلت صيغة التعاون بينهما فكانت مسرحية "ضيعة تشرين" عام 1974، ولاحقاً مسرحية "غربة" عام 1976، والتي حملت بعرضها أولى بوادر محنته المرضية المؤلمة، حين سقط على خشبة المسرح أثناء العرض.

السقطةُ لم تكن عارضاً صحيّاً ولا ألماً عابراً، بل محنةٌ ألمّت به جعلت يده شبه مشلولة وتركته متعباً ضعيفاً معتلّ الصحّة على الدوام.

زاد على مأساته الصحية وآلامه جحودُ الأصدقاء مِمن اعتبرهم رفاقَ الدرب، الأمرُ الذي تركه في صمتٍ طويلٍ لم يكن يكسرُه إلّا القلم الذي أنطَقَ حسني البورظان من جديد بعد سنوات غياب، جاعلاً منه هذه المرة "عمّو حسني" في أسلوب قصصي قدّمه للأطفال. وقد كانت هذه القصص منفذه للحياة والأمل، فواظب على الكتابة في مجلة "سامر"اللبنانية، إلى جانب محاولاتِه للعودة إلى الشاشة الصغيرة ممثلاً وكاتباً، إلّا أن نصوص نهاد قلعي أًصبحت الآن غير صالحة حسب تعبير إدارة التلفزيون!

وفي "حارة كل مين إيدو ألو"، من الطبيعي أن يعودَ نهاد قلعي الذي أمتع السوريين في كل ليلة، وصنَعَ ضحكاتِهم، وبنى لهم ذاكرةً لا تشيبُ ولا تعرفُ الذّبول، أن يعودَ معوزاً، فقيراً، يعاني من مرضه بصمت، ليغيبهُ الموتُ صبيحة التاسع عشر من تشرين الأول عام 1993.

.

.

.

عقدان من الزمن مرّا على رحيل "نهاد"...

تُرى هل كان هناك من فندقٍ يُدعى "صح النوم" وحارة اسمها "حارة كل مين إيدو ألو"، وشخصيات مثل بدري أبو كلبشا وفطّوم حيص بيص لولا هذا الرجل العبقري الجميل؟

وهل كان سيوجدُ في الذاكرة الجمعية السورية والعربية رجلٌ اسمُه "حسني البورظان" نتذكرُهُ بكل هذا الحب والوفاء؟!

لروح الطيّب المفرط الطيبة ... نهاد قلعي،

التحية.

المصدر:

رواية اسمها سورية، مئة شخصية أسهمت في تشكيل وعي السوريين في القرن العشرين، ص 1203، نبيل صالح.