الطبيعة والعلوم البيئية > علم الأرض

التأريخ بالكربون المشع

إن معرفة عمر الأشياء وإرجاعها إلى تاريخها الصحيح كان من أهم المتطلبات لعلوم كثيرة فلا غنى عنه في الجيولوجيا ولا في علوم الآثار أو المناخ والطقس أو حتى في علوم الفضاء. من بين الطرق الكثرة المستخدمة في التأريخ –تحديد الأعمار– تعتبر النظائر المشعّة من أهم الطرق وأدقها.

تعتمد الطريقة على ظاهرة طبيعية معروفة؛ هي ظاهرة التفكك أو الانحلال التلقائي لبعض العناصر الطبيعية حيث أن التفكك التلقائي لهذه العناصر يحدث بمعزل عن أي مؤثر خارجي بنفس النسبة على الأرض وفي الكون دون أن تتأثر سرعة حدوث التفكك بدرجات الحرارة المرتفعة أو المنخفضة، الحت، التعرية أو أي شكل الظواهر المعروفة.

التأريخ باستخدام الكربون المشع:

اكتشفت هذه الطريقة من قبل ويلارد ليبي Willard Libby في أربعينيات القرن الماضي ونال عليها جائزة نوبل في الكيمياء عام 1960. يتشكل الكربون المشع C14 في طبقات الجو نتيجة لتفاعل الأشعة الكونية الحاوية على النترونات مع نيتروجين الجو لينتج الكربون المشع، ونتيجة لتفاعلات التبادل التي تقوم بها ذرة الكربون المشعة مع ذرة كربون عادية ضمن جزيء ثاني أكسيد الكربون تتشكل جزيئات ثاني أكسيد كربون مشعّة. بما أن CO2 يدخل في أجسام الكائنات الحيّة كلها ابتداءً بالنباتات التي تستخدمه في التركيب الضوئي وانتهاءً بالحيوانات فالبشر يمكن بالاعتماد عليه تأريخ كل شيء حي حيث تشمل دورة الكربون كافة الكائنات الحية دونما استثناء.

نتيجة للتشكل المستمر للكربون المشع والاستهلاك المستمر له يصل تركيز هذا الكربون ضمن الجو إلى التوازن وبما أن الكائنات الحية تتواجد ضمن هذا الجو فإن هذه النسبة أيضاً تصبح ثابتةً في أجسامها طالما أنها على قيد الحياة وقد قدر العلماء هذه النسبة بذرة واحدة من الكربون المشع مقابل كل 10 مرفوعة للقوة (^12) من ذرات الكربون العادية.

بعد موت الكائن الحي تتوقف عملية زيادة الكربون المشع ضمن جسمه وهكذا تبدأ نسبته بالتناقص تدريجياً نتيجة للتفكك التلقائي للكربون حيث يبلغ عمر النصف* له 5730 سنة.

إن الاعتماد على نسبة الكربون المشع الى نسبة غير المشع منه تعطي نتائج دقيقة للأشياء حتى عمر الـ 2000 سنة هذا إذا اعتبرنا أن تدفق الأشعة الكونية للأرض كان ثابتاً في الأزمنة السابقة ولكن من حسن الحظ أوجد العلماء طريقة لتصيح الأخطاء الناتجة عن تغير تدفق هذه الأشعة وذلك باستخدام علم تحديد الأعمار بواسطة حلقات الأشجار وهو يتميز بالدقة إلى حد ما.

يوجد في الولايات المتحدة الأميركية وفي القسم الجنوبي الغربي منها نوع من الاشجار يدعى صنوبر بريستل توجد منه الآن أفراد حية يصل عمرها إلى 4000 سنة وقد تم تحديد عمر الحية منها بمقارنة جذعها مع جذوع أشجار ميتة يبلغ عمرها 4000 سنة وعند إجراء التأريخ بالكربون المشع على هذه الأشجار الميتة وجد أن العمر المحدد لها لا يتوافق مع العمر المحدد لها بواسطة حلقات الأشجار وهكذا تم التأكد من فرضية تغير تدفق الأشعة الكونية عبر الزمن وتأثيرها على طريقة التأريخ باستخدام الكربون المشع وبناءً عليه وضع منحنىً تصحيحي يعطي التواريخ بدقة جيدة حتى حدود 8000 سنة.

ماهي حدود التأريخ بالكربون المشع؟

يمكن باستخدام هذه الطريقة تقدير أعمار العينات العضوية حتى 55000 سنة مضت إن هذا الحد هو نتيجة أن 60000 سنة تمثل تقريباً 10 أعمار نصف للكربون أي ما يعادل انخفاض نسبته لتصبح حوالي 1/1000 مما يصعب من عملية الكشف عنه وتقدير نشاطه بشكل دقيق.

العوامل المؤثرة الأخرى على التأريخ بالكربون المشع:

1- التأثير الصناعي: ازداد استخدام البشر لمصادر الطاقة الأحفورية منذ عام 1890 مما أدى إلى طرح كميات هائلة من غاز ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي للأرض مع الملاحظة بأن هذا الغاز ناتج عن مخلفات عضوية ترجع إلى ملايين السنين مما يعني زيادة في نسبة الكربون في الغلاف الجوي دون أن يرافقها زيادة في طرح الكربون المشع إذ أنه يكون بعد مرور هذا الوقت قد تفكك تماماً مما يؤدي بالنتيجة الى انخفاض نسبة الكربون المشع في الغلاف الجوي عن نسبته الأساسية (وصلت نسبة التناقص إلى 2% عام 1950) وبالتالي كان على العلماء للحصول على ثوابت عن نسبة الكربون المشع العودة الى خشب سنة 1890 ومنه تقدير نسبة سنة 1950.

2- تأثير القنابل النووية: أجريت العديد من التفجيرات النووية والهيدروجينية منذ عام 1955 مما أدى الى زيادة التيار النتروني في طبقات الغلاف الجوي وبالتالي زيادة تشكل الكربون المشع في طبقات الجوي العليا (وصلت هذه الزيادة إلى 100% فوق الحدود الطبيعية في بعض مناطق الغلاف الجوي). تناقصت النسبة نتيجة للتفكك الطبيعي ونتيجة لدخولها في دورة الكربون في الطبيعة واذا أردنا أن ننظر للجانب الإيجابي في هذا الموضوع فقد مكنت هذه الزيادة العلماء من استخدام الكربون المشع بشكل أكبر في دراسة آليات تمازج وتبادل الكربون بشكل أكبر.

أخيراً: نلاحظ مما سبق أهمية التأريخ بالكربون المشع في تحديد أعمار العينات العضوية أما فيما يتعلق بتحديد أعمار العينات غير العضوية والتي تعود الى أزمنة سحيقة فلا بد من الاستعانة بساعات نووية أخرى حيث يتم دراسة العناصر ذات نصف العمر الكبير ودراسة نتائج تفككها ومن تقدير نسبتهما إلى بعض يتم تحديد الوقت الذي مضى على تشكل هذه العينات وقد استخدمت هذه الطرق في تحديد عمر الأرض والصخور القديمة وحتى القمر والمذنبات والمجموعة الشمسية

من العناصر ذات نصف العمر الكبير والتي استخدمت في هذه الغايات: اليورانيوم، الرصاص، البوتاسيوم، الأرغون، الروبيديوم، السترونتيوم، البيريليوم 10، الألمنيوم 26، الكلور 36.

(*) عمر النصف لمادة نشطة إشعاعياً: هو الزمن اللازم لحدوث تحلل إشعاعي لنصف الذرات غير المستقرة في العينة. يتسم كل نظير مشع بنصف عمر مميز له، ونجد أنواع نظائر مشعة يبلغ نصف العمر لها ثوانٍ أو أقل، وأخرى يبلغ عمر النصف لها آلاف السنين، وأخرى مئات آلاف السنين.

مصدر الصورة:

هنا