الفنون البصرية > فن وتراث

فرانك نيتر، مايكل أنجلو الطب.

صديقُ جميع طُلّاب الطّبِّ أينما كانوا، على ضوء رسوماته سلَكَ العديد منهم مسيرهم تجاه علم التشريح أو الجراحة، ومع لوحاته وألوانه التي تحاكي الواقع أصبحت دراسة الفيزيولوجيا، التشريح وعلم الجنين الطبي أكثر مُتعةً وجمالاً.

إنَّه فرانك نيتر، الاسم الذي يمتلك هالة نيّرة ودلالة عميقة لدى جميع طلاب الطب.

هو الطبيب الذي رسم أكثرَ من أربعة آلاف لوحةٍ توضيحيَّةٍ تتعاملُ مع التَّشريح والفيزيولوجيا. تلك اللوحات النّابضة بالحياة تبدو وكأنّها صور فوتوغرافية حقيقية لدقّتها العلمية ونقاء ألوانها.

وُلدَ فرانك هنري نيتر في 25 نيسان عام 1906 ،بروكلين،نيويورك. ومنذ طفولته كان يفضّل زيارة متحف الفنون في العاصمة على لعب الكرة مع رفاقه، ذلك لشغفهِ برسم الأشخاص والوجوه وامتلاكِه حسّاً مرهفاً ووعياً إنسانياً عميقاً، ورغم أنَّ ذلك ساعده بشكل كبير في مهنته التي اتخذها فيما بعد كـ"رسّام طبي"، إلَّا أنَّه عَزله عن بقية أقرانه خلال طفولته.

وبينما غذّى والدُه حبَّه للفن وشجَّعه على تحقيق طموحه في أن يصبح رسّاماً، فإن رغبة نيتر ووالده لم تحظَ باستحسان أمّه التي كانت تخشى على ابنها من أن ينخرط في الأسلوب البوهيمي* لحياة الفنانين المنتشر آنذاك، وفضّلت أن يشقّ ابنها دربه في "مهنة محترمة" - على حدّ تعبيرها - كطبيب مثلاً.

ورغم ذلك فقد بقيت شعلة الفن متوهّجة في قلبه، مما دفعه إلى الالتحاق بمعهد المدينة في نيويورك ودرس الفنون ضمن رابطة طلاب الفنون في الأكاديمية الوطنية للتصميم. وسرعان ما أصبح رسّاماً مشهوراً في عشرينات القرن العشرين مع مساهمات له في وسائل الإعلام مثل صحيفة نيويورك تايمز. وعلى إثر وفاة والدته،و تكريماً لذكراها قرّر نيتر أن يَدرُسَ الطب في جامعة نيويورك.

وكطالب طب في سنواته الأولى، شغوفٍ بالرسم، درس التشريح وعلم الجنين الطبي من خلال الرسم.

وكانت كتبه تحتضن رسوماته ومخططاته التوضيحية التي جذبت اهتمام أساتذته وزملائه لدقتها وقدرتها على إيصال المعلومة بسهولة. ونتيجةً لذلك فقد طُلِبَ منه رسومات توضيحية للمقالات والكتب الصادرة عن كليّته، مما شَغَلَ معظم وقت فراغه ومنَحَه دخلاً ماديّاً جيداً خلال سنوات دراسته.

تخرّجَ الحكيم الرَّسَّام من كلية الطب، جامعة نيويورك عام 1931 وأكمل إقامته كجرّاح في مشفى بيليفو Bellevue عام 1933. ثم انضم إلى دورة طبية في الجراحة في مدينة مانهاتن، وحينها أدرك أن الحاجة للوحاته كانت أعظم من الحاجة لممارسته الطبية العملية. ولحسن حظّنا فقد اختار أن يعتزل الممارسة الطبية مقابل أن يعمل كفنّان طبّي.

خِبْرَتُهُ كطبيب متمرّس ومختص في الجراحة، حسّه الإنسانيّ العالي، وموهبته الفنية المتميزة، كل ذلك ميّز نيتر عن جميع الرسَّامين الآخرين في مجال الطب، حيث كان يرسم من وجهة نظر سريريّة ثم يحوّلها إلى لوحة فنيّة. كما أنَّ معرفته بالعلوم الطبية الأساسيّة والسَّريريَّة سهّلت مهمّته وجعتله مدركاً تماماً لما يفيد الطّلاب والأطباء سواء في الدِّراسة أم العمل السّريري.

ولعلّ الدور الأعظم في دفع عجلة مسيرته كفنّان طبي يعدو لعلاقاته بشركات الأدوية وعمله معها. فقد طلبت منه شركة سيبا Ciba تحضير نشرة توضيحية لإصدارها من دواء الديجيتال Digitalis، أحد أدوية القلب، وعمل نيتر مع تلك الشركة،التي عُرفت فيما بعد باسم سيبا - جيجي Ciba -Geigy ،لمدّة خمسة عقود تالية أنتجوا فيها "مجموعة سيبا للرسوم الطبية التوضيحية والندوات السريرية"، وكتباً توضح بشكل جميل وحيويّ التشريح الطبيعي إضافة للتشريح المرضي المتعلق ببعض الأمراض.

وفي إحدى المرات طُلِبَ منه أن يجري عملية جراحية لأم دم أبهرية** فاستفاد من ذلك الأمر في رسم مخطَّطات للعملية التي قام بها.

كما أنَّه حضر أول عمل جراحي لزراعة قلب صنعيّ في بداية ثمانينات القرن العشرين كي يرسم ذلك العمل بأدق التفاصيل. وشارك في العديد من المشاريع المتميّزة كتشييد منحوتةٍ شفّافة بطول سبعة أقدام لأنثى، وضّح من خلالها الدَّورة الطَّمثية، تطوّر الجنين وعملية الولادة، إضافةً إلى النّمو الجنسي والجسمي للأنثى. وقد عُرِضَت في معرض البوَّابة الذهبيّة في سان فرانسيسكو.

وعام 1989 تم نشر "أطلس تشريح الإنسان" للدكتور نيتر كنتيجة لطلبات الأطباء والطلاب الملحّة وحاجتهم لأطلس بريشة ودقّة نيتر.

تضمّن ذلك الأطلس أفضل اللوحات التّشريحيّة التي اختارها الحكيم الفنّان من بين آلاف أخرى رسمها وسرعان ما أصبح ذلك الأطلسُ الأكثرَ مبيعاً في كليات الطب في أمريكا والآن حول العالم بعد ترجمته لـ 16 لغة.

استخدم نيتر الألوان المائيّة لوحدها أو ممزوجة مع الأبيض المائي. واستخدم مادة الجواش*** الأبيض white gouache لجعل الألوان وواقعية، لأن الورق لا يمتص الجواش مما يمنح اللوحة مظهراً نسيجياً أكثرَ جفافاً، كما أنّه يغطي كل طبقات الألوان تحته معطياً درجة أكثر عتمة، ذلك على خلاف الألوان المائيَّة العادية التي تكون أفتح درجة وأكثر شفافيّةً.

توفي نيتر عام 1991 تاركاً وراءه إرثاً طبيّاً متميّزاً لجميع الأطباء حول العالم. وقامت أنظمة آيكون للتعليم عام 2000 باقتناء مجموعة نيتر واستمرت في تحديث اللوحات الأصلية اعتماداً على أخرى أحدث ينجزها فنانون طبيّون متمرّسون في أسلوب نيتر.

*البوهيمية: البوهيمي أساسا هو أحد مواطني منطقة بوهيميا التشيكية إلا أن المصطلح انتشر بمعنى آخر في فرنسا أولا في القرن التاسع عشر الميلادي، حيث أصبح يدل على أي كاتب أو فنان يميل إلى اتخاذ سلوك أو العيش بنمط حياتي غير مألوف، سواء كان هذا سلوكا واعيا أو غير واعيا منه.

**أم دم أبهرية: (Aortic aneurysm) هي حالة يتوسع فيها جزء من الشريان الأبهر في المنطقة التي يكون فيها جدار الشريان ضعيفاً.

***الجواش Gouache: تُعرف بالألوان المجسمة(أو الألوان المعتمة) : أحد أنواع الألوان الأقل سطوعاً ولمعاناً من الألوان المائية وتستخدم عادة في الاعمال التجارية المطلوب اعادة إنتاجها في الكتب والمجلات لوجود تصميمات لونية متعددة لهذه الالوان.

المصادر:

هنا

هنا

هنا