الموسيقا > موسيقا

الطلّة والعين الكحلى، ترقدُ في سلام.

طلّتها وعينها "الكحلى"، صوتها وهي تقول "أهلا وسهلا"، تلك "الحنطية"، التي غزت الشاشات والإذاعات و "وردات دارنا" بصوتها القادم من بيتها في "شارع الحمرا" من "بيروت" إلى كل العالم العربي، لتقول لنا "مسّيناكون، مسّونا" حيث "سنلاقيها عالبوابة"، وبدون إذن بلهجتها اللبنانية الرائعة، ويهيم الناس في عشق "فنجان القهوة والتبولة"، "فنحب عمرنا ونعشق الحياة"، "قابلت كثير"، "لم ترد إلا هو"، الغناء ولا شيء غيره، فبقيت تطربنا بصوتها حتى في أصعب أزمات حياتها، فكان صوتها "زيّ العسل" على قلوبنا، فغنّت لنا أغاني رقيقة وشعبية معانيها في منتهى "البساطة"، "بالعذاب تسهر عينيها" من تدخل وسائل الإعلام في حياتها الخاصة، إذ لم تهنأ بعلاقةٍ زوجية دائمة، فلم تستطع أن "تكتب قلبها باسمه"، من تكون؟ من تكون يا "شغلتها بحسنك"؟ يا من ألهبت صوتها الجبليّ القويّ الذي هزّ لبنان في الخمسينات والستينات، لتصل ارتدادة الهزة إلى القاهرة حيث ستلمع نجوميتها.

من لبنان كالعادة، تبدأ قصة النجوم:

تطبع شمس لبنان على الفتيات لون السمرة المميز، لونٌ يفتن قلوب كل من يزور لبنان، ويشاهد جمال الأرض التي تلهم الفنانين في كل المجالات، ربما لم يدرك جرجس فغالي ابن قرية "بدادون" أنه كان في يوم سعده في العاشر من نوفمبر من عام 1927، إذ يحمل بين يديه "شحرورة" ستشدو بصوتها في كل إذاعات الدنيا، سمّاها جانيت، اسم غربي صرف، بعيد عن اللغة العربية، سيغدو في يوم من الأيام، "صباح"، أو "صبوحة" كما تحب أن يلقبها الناس، باسم عربي موجه بكل أحاسيسه إلى العرب، لكن هذا سيأتي بعد وقت طويل، وكالعادة لا بد من صعوبات تبدأ منذ الصغر، فكان والدها قاسٍ معها لدرجة الضرب – على حدّ وصف إحدى المصادر – تلك الشدة هل كانت مبررة؟ لا ندري إن كانت هناك علاقة سيئة بين الأب والإبنة، كل ما يمكننا الجزم به أنها لم تحظَ بطفولة سعيدة ضمن محيطها الأول، وضمن إطار عائلي مضطرب جداً وغير مستقر، تزوجت لتبتعد عن رقابة أسرتها، لتبدأ هنا قصة سلسلة من الزيجات غير المستقرة لن تنتهي إلا بوفاتها.

انطلقت في رحلتها في مصر، حيث ستبدأ في أولى الأفلام بعنوان "القلب له واحد"، حيث عانى الملحنون في "صوتها"، تطويع ذلك الفرس البلدي الأصيل لم يكن بالأمر السهل أبداً، فلكلور محلي في بلاد الشام لا يمكن أن يروّض بهذه السهولة، وبعد أن لاقى ذلك الفيلم نجاحاً مميزاً، حيث في الفيلم الذي أنتجته آسيا داغر سيظهر للعلن اسم صباح بدل جانيت.

ليستمر النجاح مع صباح أو الصبوحة في مصر أرض الفن في الأربعينات، والسينما في قمة ازدهارها، مونولوجات إسماعيل ياسين، رومنسية عبد الحليم، وتريات فريد الأطرش، وكلمات وألحان عبد الوهاب في الواجهة أمام امرأة واحدة تستحوذ على المسرح الغنائي، تلك كانت أم كلثوم، كوكب الشرق، ولم يكن سواها يصدح في مصر، ليأتي دور عناد وقوة جبل لبنان لينعم على ابنته بصبر مديد في مشوار فني طويل محفوف بالمخاطر، والمنافسة غير المتكافئة مع سيدة الفن الكلاسيكي الجميل، لتنطلق في نفس الطريق الذي سلكه عبد الحليم في اتخاذ الأغاني القصيرة والرشيقة مهنتها الأساسية مع التمثيل، ولتستعين بسيد المونولوجات اسماعيل ياسين في انطلاقة مسيرتها، أنور وجدي وغيره من رفقاء الدرب، كان لهم شرف الحضور بجانب الشحرورة في التمثيل، لتبدو ممثلة متكاملة بكل المواصفات، في زمن كانت فيه المنافسة على أوجها، فهي تملك جمالاً شرقياً لبنانياً فريداً، وصوتاً جبلياً غير معهود في أرض الموسيقى الكلاسيكية، وأداءً على المسرح وخلف الكاميرات في التمثيل لا يضاهيه نجاح، أضف إلى ذلك استراتيجية ممتازة في انتقاء الأعمال والأدوار وتناسبها الكامل مع الشحرورة الدلوعة التي يحبها الجميع، ويتمنون الظفر بها، وهي تأباهم جميعاً وتختار ما يمليه عليها قلبها.

تابعت مسيرتها في مصر، أحبتها وأكنّت لها كل الوفاء، لتأتي رياح الخمسينات عليها بكثير من النجاحات، حيث عهد الجمهورية العربية المتحدة، لتقول للعالم العربي "وطني حبيبي" تقف على المسرح برفقة عبد الحليم ووردة وشادية ونجاة الصغيرة و فايدة كامل، وتقول بمنتهى المحبة لعالمها العربي "حلوة يا وحدة يا جامعة شعوبنا" ذلك الأوبريت الذي لحن كلماته محمد عبد الوهاب، وكتبها أحمد شفيق كامل، حيث جعل من شعبيتها أكثر من مجرد صوت جميل ووجه براق.

لتستمر من نجاح إلى آخر، وتصعد قمم الجبال في أفلامها الرائعة مع نخبة من ألمع فناني مصر، "شارع الحب" مع عبد الحليم في سنة 1958 وفي نفس السنة ولكن مع فريد شوقي "مجرم في إجازة"، تلاها في السنة التي بعدها "الرجل الثاني" مع سامية جمال ورشدي أباظة وفي نفس السنة 1959 مع إسماعيل يس في فيلم "العتبة الخضراء"

لتنتقل تلك المحبة في قلوب الناس من القاهرة إلى كل العالم العربي، طارقة أبواب دمشق وبغداد والكويت وتونس وعمان، ليصل صوتها حتى باريس، لتأتي الستينيات مع مزيد من الأفلام والأغاني والنجاحات، عقد اللولو (1964) مع الفنانين السوريين دريد لحام ونهاد قلعي وفهد بلان، شارع الضباب مع الفنان الكويتي طلال مداح (1967)، عصابة النساء مع إسماعيل يس و جونيت آركين الممثل التركي (1969).

لتدخل بعدها – وبسبب جملة من الظروف الشخصية – طوراً جديداً في حياة الصبوحة في التمثيل، حيث تدخل في "ركود أبطال الخمسينات" الذي أصاب ذلك الجيل الرائع، هذا الركود الذي أصاب عبد الحليم حافظ، واسماعيل ياسين وكل جيلها من الفنانين، وذلك بسبب الظروف السياسية والاقتصادية السيئة في العالم العربي نتيجة تأزم الصراع العربي الإسرائيلي، والحروب المتبادلة بين الطرفين، أضف إلى ذلك الحرب الأهلية اللبنانية التي انطلقت في السبعينيات، لتحرق كل مكان جميل في مسارح لبنان، ما جعل جيل "المزاج العالي" و"الطرابيش" يموت بأبشع الطرق، من أجل جيل من الفنانين سيستبدلون أمجادهم، بأمجاد خاصة وفن جديد، لا يشبه أبداً ذلك الفن الذي اعتادته جماهير الأربعينات والخمسينات والستينات، ماذا حصل لذوق الناس فجأة يتغير؟ إنها الدنيا، لا تدوم لأحد، حيث مثلت في السبعينات العديد من الأفلام التي لم تعجب الكثيرين، لتكتفي بالغناء فقط واضعةً حدّاً لمسيرتها في السينما مع فيلم كلام في الحب (1973) مع يسرى وحنان الترك المصريتين.

عادت في محاوليتن في الثمانينيات في أفلام المخطوف (1985) وليلة بكى فيها القمر (1980) إلا أنهما لم يلقيا نفس النجاح، لتكتفي بالغناء فقط، وهذه قائمة بأفلام الصبوحة التي مثلت باللهجة اللبنانية والمصرية والسورية:

المخطوف (1985)

ليلة بكى فيها القمر (1980)

كلام في الحب (1973)

جيتار الحب (1973)

كانت أيام (1970)

نار الشوق (1970)

عصابة النساء (1969)

وادي الموت (1968)

3 نساء (1968)

كرم الهوى (1967)

شارع الضباب (1967)

رحلة السعادة (1966)

ليالي الشرق (1965)

الصبا والجمال (1965)

فاتنة الجماهير (1964)

عقد اللولو (1964)

المتمردة (1963)

الأيدي الناعمة (1963)

القاهرة في الليل (1963)

هذا الرجل أحبه (1962)

الليالي الدافئة (1962)

طريق الدموع (1961)

معبد الحب (1961)

الرباط المقدس (1960)

العتبة الخضراء (1959)

الرجل الثاني (1959)

مجرم في إجازة (1958)

شارع الحب (1958)

نهاية حب (1957)

وكر الملذات (1957)

صحيفة السوابق (1956)

قلبي يهواك (1955)

يا ظالمني (1954)

خطف مراتي (1954)

فاعل خير (1953)

ظلموني الحبايب (1953)

الحب في خطر (1951)

خدعني أبي (1951)

سيبوني أغني (1950)

الآنسة ماما (1950)

أختي ستيته (1950)

الليل لنا (1949)

بلبل أفندي (1948)

قلبي وسيفي (1947)

صباح الخير (1947)

لبنان في الجامعة (1947)

عدو المرأة (1946)

شمعة تحترق (1946)

سر أبي (1946)

هذا جناه أبي (1945)

القلب له واحد (1945)

أما أغنياتها التي عشقناها جميعاً، من منا لم يعشق أغنية "أهلا بهالطلة" وتلك التي قالت فيها "ألاقي زيك فين يا علي" و حين تقول "غلطان بالنمرة" أنا لا أستطيع أن أنتهي، فبين المصرية والللبنانية قصة عشق بصوت قوي لا يضاهيه قوة إلا صوت أم كلثوم وفيروز.

تتوقعون أن أخبركم عن أزواجها التسعة أو عن ابنتها هويدا، أو عن قصص عائلية هي نفسها لم تفضل أن تفصح عنها وتقولها للإعلام الهابط، لأهداف تجارية بحتة، تم تشويه صورتها على مر التاريخ، قسى عليها والدها يوماً، ولكن قسوة الزمان والجمهور والصحافة كانت أسوء، كل ما احتاجت لتتخلص من رهبة والدها هو زواج، لكنها إلى ماذا تحتاج حتى تتوقف تلك الأصوات عن الإساءة لعالمها الخاص، حيث عالم عربي شرقي، عاداته لا ترحم، وخصوصاً مع النساء، لم يعاقب من ارتكب أفعال أفظع من أفعالها أي أحد من جيلها كما تعاقبت هي بسوط الجلادين والناقدين ومروجي الشائعات، لم تنكر صباح أي من علاقاتها، ولطالما حاولت مواجهة تلك الشائعة بقوة تضاهي قوة صوتها، إلا أن أسرار جبل لبنان العالي لم تكن تنفعها حتى آخر أيام حياتها.

تلك التي أدخلت السعادة إلى بيوتنا لم تحظَ يوماً بسعادة كافية، أسرتها الأولى كانت قاسية، لم تحظَ بزيجة مستقرة، لتخرج بكنز واحد ألا وهو هويدا ابنتها التي لم تنساها حتى في أغانيها فغنّت لها "أمورتي الحلوة" و "حبيبة أمها".

لتبدأ رحلتها في محاربة الشائعات منذ الثمانينيات، وكانت الحرب قد اشتدت ضراوةً كلما تقدمت تكنولوجيا وسائل الإعلام، لتجد أخيراً راحتها الأبدية في صباح يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر نوفمبر من عام 2014 تاركةً خلفها إرثاً من أكثر من 50 ألبوم موسيقي، و 98 فيلم، و 20 مسرحية، وقد غنّت أكثر من 3500 أغنية في مسيرة مهنية طويلة، لم تستطع رولا سعد أن تغطيها بكاملها في مسلسل عرض قبل سنوات عن حياة الصبوحة.

وهنا باقة من أجمل ما غنت الصبوحة:

هنا

لطالما اقترن اسمها بكثير من الإساءة والإهانة، لقد كانت مادة دسمة للإعلاميين المتخصصين في عالم الفضائح، ولم تحظَ يوماً بذلك الاحترام الذي حظي به فنانون لم يقدموا ربع ما قدمت صباح، ما أشبهك يا جبل لبنان بصباح، لم تنعم لا أنت ولا هي بسلام مطلقاً، بالرغم من جمالكما، وبالرغم من قوتكما، إلا أن الاعتزاز بالأصل، وروعة المشهد، تكفي لأن نقول بأن من يقع في حبكما، لا يمكن أن يقع في حب أحد غيركما.

وداعاً صباح، لم يعد هناك داعٍ للقلق، فليقولوا ما يشاؤوا، فالإشاعات الآن لم تعد تجد من يصغي إليها، وذلك الملف الكبير من الإهانات سيموت كما مات جسدك، وستحيا أغنياتك في أجهزة الموسيقى الخاصة بنا، ما حيينا.

المصادر:

هنا

هنا

هنا