الاقتصاد والعلوم الإدارية > اقتصاد

كيف بدأت العملة؟ وما أنواعها وأشكالها؟

قد تبدو العملات للوهلة الأولى مجرد فكرة بسيطة، فهي المال، أليس كذلك؟ هي الرواتب التي نحصل عليها من أرباب العمل، ونستخدمها لدفع الضرائب وشراء الطعام والسلع وتسديد ثمن مقابل الخدمات التي نحتاجها.. وقد نضع بعض المال في حساب مصرفي مخصص للادخار أو نستخدمها للاستثمار في الأسواق المالية أو العقارية، وبمعنى آخر؛ قد يبدو مفهوم العملة واضحًا لشريحة كبيرة من الناس.

لكن في الواقع، ساهم تطور العملة في تشكيل الحضارة البشرية، فقد أوقفت العملات حروبًا، وتسببت ببدء حروبٍ أكثر، وفي الحقيقة فإن مدنًا و أممًا بأكملها لم تكن لتوجد لولا العملة..

وكما قال الناقد الأدبي ليونيل تريلينغ: "نحن أوجدنا المال ونحن نستخدمه، لكن لا يمكننا فهم القوانين أو القوى التي تحكم عمله حتى الآن.. للمال حياته الخاصة ".

في هذا المقال سوف نلقي نظرةً على تاريخ العملة، ابتداءً من العملات النقدية في بدايتها مرورًا بحياة العملة وانتهاءً بالخدمات المصرفية عبر الإنترنت. وسوف نناقش تطور العملة في الولايات المتحدة، فضلًا عن دور الاقتصاد في تحديد أسعار الصرف والتحكم في التضخم. وسيُستخدم مُصطلحا العملة والمال على نحو متبادل لغرض المناقشة.

استخدام العملة في التبادل:

ويمكن تعريف العملة أو المال بأنها وحدة القوة الشرائية، ووسيط التبادل، وبديل السلع والخدمات، وليس بالضرورة أن تكون على هيئة قطع أو أوراق نقدية كما يألف جميعنا، فقد شهد العالم على مر العصور تغيرًا كبيرًا في الأدوات والمواد المستخدمة في عمليات التبادل، بدايةً بالعجلات الحجرية الكبيرة والسكاكين وألواح الملح، وصولًا إلى البشر، كل ما يتفق أفراد المجتمع على امتلاكه قيمةً مرتفعة يمكن أن يستخدم عملةً للتداول.
على سبيل المثال: لنفترض أن لديك برميلًا من القمح، و أنت ترغب بشراء بقرة، لا يجب عليك أن تجد شخصًا يمتلك بقرة فحسب، بل أن يرغب بأخذ برميل القمح خاصتك بدلًا منها أيضًا، ولن يحدث التبادل فيما عدا ذلك.

حسنًا، لنقُل أن جارك يلائم الشرط، فهو يمتلك بقرة ويريد برميلًا من القمح، لكن ماذا لو كانت برميل القمح لا يستحق أن يستبدل بالبقرة؟! من الواضح أن جارك لا يستطيع إجراء تعديلاتٍ في بقرته أو أن يعطيك جزءً منها فقط، إذًا عليك أن تجد حلًّا لتلك المعضلة، أليس كذلك؟

إن كنت تعيش في مكان حيث القطع النقدية الدائرية والمختومة تمتلك قيمةً معينة ومعروفة ويمكن مبادلتها بسلع أخرى، فإن كل ما عليك فعله هو إيجاد شخص يحتاج القمح وتتبادل وإياه لقاء مبلغً متفق عليه من القطع النقدية، ويمكنك استخدام هذه القطع النقدية لاحقًا لشراء البقرة من مكان آخر. ولا ننكر أن حمل القطع النقدية أسهل بكثير من حمل البرميل أو البقرة معك حيثما ذهبت على أمل إتمام الصفقة.

النقود، مخازن الثروات حول العالم:

إلى جانب عملها بديلًا عن المواد العينية في التجارة و التبادل، فإن للنقود استخدامًا مهمًا آخر، فهي مخزنٌ للثروة.

تكون السلع المُتداوَلة في نظام المقايضة قابلة للتلف عادةً، على سبيل المثال يمكنك جمع أطنانٍ من القمح إثر عقد عدة صفقات تبادل ذكية، لكنك إن حاولت الحفاظ على القمح فإنه سيفسد في النهاية لا محالة.

لقد كان لاستخدام النقود تأثير مهم في الحضارة، فهي تسمح للناس بإنشاء ثروة وزيادتها، وبذلك لن يبقى النفوذ والقوة محصورَين ضمن إطار العائلة الواحدة، بل سيتمكن الناس المستبعدون من النشاط السياسي من إنشاء ثروة عن طريق التجارة أو تقديم الخدمات، ومن ثم يمكن استخدام هذه الثروة لشراء النفوذ سياسي والقوة عسكرية، وبذلك فإن بمقدورنا القول أن المال جعل الحضارة أكثر ديمقراطيةً وأصبح النفوذ غير مقتصر على العائلات النبيلة التي احتفظت به لنفسها على مدى مئات السنين.

أشكال العملة:

تغيرت أشكال العملة ووظائفها خلال الـ 3000 سنة الأخيرة، وانحصرت في أربعة أشكال محددة هي: 1- السلع، 2- النقود المعدنية، 3- النقود الورقية، 4-النقود الإلكترونية.

1- السلع: إن تطور نظام العملة بشكلها السلعي يعد أوضح تعبير عن الفارق بين نظام المقايضة ونظام العملة الذي ظهر لاحقًا فيما يمكن عدُّه تغيرًا ثوريًا حقيقيًا، ففي نظام مقايضة السلع لم تكن النقود بديلًا أو نائبًا عن القوة الشرائية، بل هي شيء يتمتع بقيمة مرتفعة خاصة به، ومن أهم الأمثلة وأشهرها على ذلك النظام المتبع لدى شعب الأزتِك (Aztec) الذي جعل لحبوب الكاكاو قيمة مرتفعة، فهي صغيرة للغاية ويمكن حملها بسهولة، لذلك كانت تستخدم كثيرًا لإتمام صفقات التبادل أو تسوية فروق القيم؛ أي ما يُعرف اليوم بالـ"فكَّة".

تمتلك النقود السلعية قيمة بحد ذاتها، ويمكن استهلاكها أيًا كانت حالة السوق، لكن هنالك بعض العيوب للنقود السلعية، فهي غالبًا ما تكون ذات أحجام ضخمة وقابلة للتلف، حتى إن الماشية استخدمت كثيرًا في المجتمعات الزراعية وكانت وسيطًا جيدًا في التجارة لأن جميع أفراد تلك المجتمعات قد وضعوا لها قيمة مرتفعة، لكن العقبة كانت في صعوبة نقلها، وتؤدي حالةٌ كهذه إلى صعوبة استخدام النقود السلعية خارج حدود الثقافة المحلية التي نشأت في كنفها، وهو ما فعله المستكشفون الأوروبيون عندما ألقوا حمولة قوارب شحن مليئة بالكاكاو في البحار لأن الكاكاو بنظر الأوروبيين ليس بتلك الأهمية التي يوليها إليه شعب الأزتك!

2- العملات النقدية المعدنية Coins:

بدأ سك القطع النقدية المعدنية أول مرة في ليديا؛ وهي إمبراطورية قديمة في المنطقة التي تُعرف اليوم بتركيا، وقد صنع ملك ليديا "كورسيوس" السبائك المعدنية الصغيرة والمختومة بالشارة الإمبراطورية قرابة العام 640 قبل الميلاد، وقد انتقل هذا النظام تدريجيًا إلى الإغريق والرومانيين، وكانت النقود المعدنية آنذاك تصنع من الذهب أو الفضة، وتُفرض قيمتها إلزاميًا من قبل السُلطة التي تتمتع بها الحكومة التي سكتها، فإن أعلنت السلطات في أثينا أن النقود مهما اختلفت الدولة التي تجري فيها التعاملات وعمليات التبادل.

من جهةٍ أخرى، تطورت النقود في الصين في الوقت نفسه الذي شهد تطورها وانتشارها في الغرب؛ أي في القرن الخامس قبل الميلاد، وقد بدأ الصينيون وقتها استخدام النقود السلعية من سكاكين أو أدوات أخرى، وقد تطورت تلك الأدوات وأصبحت أصغر حجمًا حتى بلغت أخيرًا شكلها المدور الذي يحمل حفرةً مميزة، لكن هذه النقود المعدنية الصينية بقيت دون قيمة فعلية حتى القرن السابع عشر.

وقد يكون تحكم الحكومات بإصدار المال ودفعه إلى الأسواق أحد أهم الأمور التي تخص القطع النقدية، إذ يمكنهم التلاعب بالمعروض من النقود في السوق، وهو ما فعله الأباطرة الرومان سابقًا عندما قللوا نسبة المعادن الثمينة في العملات الرومانية نتيجة حاجتهم المتزايدة للنقود ورغبتهم باكتنازها، إذ أجروا الحسابات اللازمة واستنتجوا أن طنًا من الذهب يمكنه صنع 10 آلاف عملة نقدية، وأن بإمكانهم الحصول على ضعف كمية النقود تلك عن طريق تقليل كمية الذهب الداخل في صناعة النقود المعدنية إلى النصف. لكن ذلك القرار لم يعد عليهم بنتائج حسنة، فبدل ازدياد غنى الأباطرة الرومان، أدى خفض كمية الذهب في العملة الرومانية إلى انخفاض مستمر في قيمتها، مما أدى إلى انعدام الاستقرار في الاقتصاد الروماني، الأمر الذي أدى دورًا أساسيًا في العوامل التي أدت إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية عندما سقطت روما، وهنا عادت أغلب الدول الأوروبية إلى نظم اقتصادية أكثرَ بدائية؛ أي إلى النظام الإقطاعي، وفقد الناس ثقتهم بالنقود المعدنية في العصور المظلمة في أوروبا حتى خرج هذا الشكل من التداول ولم يعد مرةً ثانيةً إلى الاستعمال إلا في عصر النهضة.

3- العملات النقدية الورقية:

طُوِّرت العملات الورقية بدايةً من قبل الصينين الذين استعملوا جلد الإبل وأو ورق الكتابة الذي يحمل الختم الإمبراطوري وسيلةً للدفع، وكانت عقوبة تزوير العملة هي الموت. لكنَّ النقود الورقية صادفت مشكلة القبول في أوروبا، إذ استخدمت النقود الورقية المصنوعة من الجلد في العام 1100 تقريبًا، لكن كبديل اضطراري فقط عندما ينخفض معدل وصول شحنات الفضة عن الحد المعتاد. ثم أصدر أحد البنوك السويدية عملةً ورقية في العام 1661، لكنها خسرت قيمتها بعد امتلاء السوق بها، فخسرت فيمتها.

ولم يبدأ الاستخدام الفعلي للنقود الورقية في أوروبا إلى في القرن السادس عشر، عندما أصدر المصرف الحكومي الرسمي الفرنسي النقود الورقية، وقد جاءت الفكرة وقتها من الحدادين الذين أعطوا الناس وصولات استلامٍ مقابل الذهب ضمانًا ودليلًا على أن الحداد قد استلم الذهب فعلًا، وكان بالإمكان استبدال تلك الوصولات بالذهب في موعد لاحق، وهنا تكمن حقيقة تطور العملة الورقية فعلًا، فقد أصبح المال يمثل قيمةً حقيقةً من الذهب أو الفضة، وأصبحت العملة الورقية وعدًا حقيقيًا من الجهة التي أصدرتها، سواء كانت حكومة أو بنكًا، أن المؤسسة ستعطي حامل الورقة النقدية تلك كميةً محددة من الذهب أو الفضة من مخزونها متى أراد. وفي ظل هذا النظام، وُصف المال بكونه "مدعومًا بالذهب"، مع ترك مجال لبعض الاستثناءات الاضطرارية في فترات الحروب وغيرها من حالات الطوارئ. وقد بقيت كل أنواع العملات في العالم مدعومةً بمعدن ثمين حتى العام 1971.

4- النقود الإلكترونية:

نظرًا لكون المال عبارة عن ممثلٍ حقيقي لقيمة ما، فإن الأمر لم يستغرق زمنًا طويلًا حتى أدرك الناس أن بإمكانهم أن يرسلوا معلومات عن المال عن عبر التيليغراف أو أية وسيلة إلكترونية أخرى، وقد كان ذاك الأمر حقيقيًا بقدر ما كان إرسال المال نفسه حقيقيًا. وبعد الحرب العالمية الثانية، سجلت البنوك كافة المعلومات التي تخص تعاملاتها المالية اليومية على بكرات مغناطيسية تُؤخذ إلى البنك الاحتياطي الفدرالي المحلي بدلًا من طباعة الفواتير الطويلة بهدف تيسير التعاملات الكبيرة كما كان يحدث قبل الحرب. وقد أصبحت الأوراق النقدية المطبوعة في تلك الفترة من فئة 500$ و1000$ و5000$ و10000$ نادرةً للغاية، لكن بعضها ما زال قيد التداول.

تأسست لاحقًا الاتصالات الشبكية بين المصارف، فأصبحت المعلومات الخاصة بالتحويلات تُرسل مباشرةً دون الحاجة إلى بكرات التسجيل المغناطيسية المستخدمة في بداية تسعينيات القرن الماضي، وبذلك أصبحت كل التحويلات بين البنوك المختلفة والاحتياطي الفدرالي تجري إلكترونيًا. وتوجد ثلاث محطات مهمة في تاريخ النقود الإلكترونية؛ أولها عندما دينرز كلوب أول بطاقة ائتمان في العام 1950، وتحولت من كونها نوعًا من علامات "البذخ والغطرسة " المتاحة لرجال الأعمال الأثرياء فقط إلى وسيلةٍ متاحةٍ للجميع، وذلك بعد أن أدركت البنوك أن بإمكانها الحصول على مليارات الدولارات عن طريق إصدار بطاقات الائتمان لأكبر عدد ممكن من الأشخاص، وبذلك أخذت بطاقات الائتمان بالانتشار. ويذكر أن أكبر شركة بطاقات ائتمان في يومنا هذا (Visa) قد بدأت في بنك أمريكا (Bank of America) وأصدرت عام 1958 بطاقة (BankAmericard)، واليوم توجد أكثر من 200 مليون بطاقة Visa قيد الاستخدام في الولايات المتحدة وحدها.

كذلك كانت إدارة الضمان الاجتماعي أول من يقدم خدمة الإيداع الإلكتروني التلقائي للمال في الحسابات البنكية عام 1975، وقد انتشرت تلك الممارسة بمجرد اطمئنان الناس لإمكانية انتقال المال إلى حساباتهم المصرفية دون أن يضطروا لحمل المال. وبذلك أصبح الناس يدفعون الفواتير وينقلون المال بين الحسابات ويرسلون الأموال إلكترونيًا.

أخيرًا، فقد أدى تناومي القبول العالمي للإنترنت إلى ازدياد أهمية العملة الإلكترونية أكثر من ذي قبل، فباتت عمليات الشراء تجري عبر المواقع الإلكترونية وعن طريق سحب المال إلكترونيًا من الحساب المصرفي الذي أودعت الأموال في أصلًا إلكترونيًا! لقد أصبح الناس يحصلون على المال وينفقونه دون لمسه حتى. وفي الحقيقة، يقدر علماء الاقتصاد أن 8% فقط من العملات حول العالم موجودة فعليًا بأشكالها المادية، في حين يوجد الباقي على الأقراص الصلبة للحواسيب في الحسابات البنكية الالكترونية لدى مصارف العالم.

Reference: هنا