كتاب > روايات ومقالات

مئة عام من العزلة، مئة عام من كل شي.

تبدأ القصّةُ عندما يُكوّنُ (خوسيه أركاديو بوينديا) قريةَ "ماكوندو" من لا شيء، والتي سُرعانَ ما تتحوّلُ إلى قريةٍ تضجُّ بالحياة، ومليئةً بها، إذ كان العالمُ حديثَ النُّشوء، حتى إنّ أشياءَ كثيرةً كانت ما تزالَ بلا أسماء، ومن أجلِ ذكرِها كان لابُدَّ من الإشارةِ إليها بالإصبَع، وفي هذا النُّشوءِ يتعرَّفُ بطلُ الرّوايةِ الأوّلِ لآلِ "بوينديا"=غجريًّا كان ينصبُ خيمَتَهُ مع عددٍ من الغجرِ قربَ القرية؛ ليعرضَ بضاعتَه على سُكَّانِ القريةِ التي يولَعُ بها خوسيه بوينديا كثيرًا في إثرِ زيارةِ الغَجَرِ للقريةِ في شَهرِ آذارَ من كلِّ عام.. وتتوالى الأحداثُ تواترًا مدهشًا ليُنجِبَ خوسيه أركاديو أربعة أولادٍ هم: خوسيه أركاديو، وأورليانو، وأمارانتا، وريبيكا (ابنتُه بالتّبنّي). تتشعَّبُ العلاقةُ وتتعقَّدُ بعد أن يكبُرَ الأبناء؛ ليصبحَ تعاملُ الشّخصيّاتِ مع بعضِها بعضًا أكثرَ تعقيدًا، وليبرُزُ بالتّالي مفهومُ القِيَمِ في ظلّ العُزلةِ التي تُغيّرُ باستثنائيتِها هذهِ جُلَّ المفاهيمِ، بما يدعو إلى الدّهشة؛ وذلك بأُسلوبٍ سينمائيٍّ ذي صورةٍ واقعيّةٍ ساهمت كثيرًا في إكمالِ فكرةِ العزلة. 

الأبناء ينجِبونَ ذريَّةً مؤلَّفةً من تسعةَ عشرَ حفيدًا، منهم من يُكمِلُ النّسلَ بأبناءٍ جُددٍ وهكذا.. ولكلِّ شخصيّةٍ في الرّوايةِ حياتُها الفريدة، ما يستدعي مزيدًا من الأفراد؛ أي: إنّ الرّواية-كما الحياة-تعجُّ بالشّخصيّات؛ كأنّها خليُّة نحل! والمُدهِشُ أنّ لكلّ شخصيّةً فرادتُها، وأُسلوبُها، وأهمّيّتُها مهما بَلغَت من البُعد.. وحتى الشّخصيّاتُ الثانويّةُ كذلك كانت.. 

بُطولةُ الرّوايةِ كانت جماعيّة؛ إذ إنّ ماركيز في رائعته هذه يكتُبُ عن مَرادِفِ الواقعِ لذاتِ الإنسان.. إنّهُ ذلكَ الإنسانُ المتفرِّدُ بإنسانيّتِه؛ لذلكَ فقد سلَّطَ الضوءَ على كلِّ فردٍ على حِدة؛ ليكونَ بطلَ حالتِه الخاصّة. 

في هذهِ الرّوايةِ الرّجالُ لا تنقُصُهُم القوّةُ الجسديّة، إذا نظرنا للقوّةِ من هذهِ الناحية، بل يمتازونَ بصفاتٍ جسديّةٍ شبهِ خارقةٍ ورثُوها من الجَدّ الأوّلِ الذي كانَ قادرًا على طرحِ حصانٍ بيدَيه! ولكنّهم قلّما استغلّوها لفائدةِ الأُسرة. والمرأةُ في هذه الرّواية-وتحديدًا أورسولا-هي العصبُ الرّئيسُ في الرّواية، كما في الحياة، وهي التي تحافظُ على توازنِ الحياة.. إنّ شخصيّةَ المرأةِ في الرّوايةِ فريدةٌ جدًّا في الوسطِ الذّكوريّ الذي وُضِعَت فيه. 

إنّ المحورَ المركزيَّ في الرّواية هو عزلةُ البشر؛ إذ نُلاحظُ منذُ اليومِ الأوّلِ الذي قرّرَ فيهِ مؤسّسُ السلالةِ أن يغادرَ الدّيارَ، والأصدقاء، والأهل؛ ليسعى مع زوجتِه و20 شخصًا آخرينَ من الرّوّادِ بحثًا عن عالمٍ جديد.. كان هذا الرّجلُ قد حَكَمَ على سلالتِه من دونِ أن يدري بالعُزلة، ليس الماديّةَ فقط، بل الرّوحيّةُ التي ترتفِعُ كجدارٍ بين الفردِ و الآخرِ في الأُسرةِ الواحدة. 

الأقدارُ المتشابهةُ لأفرادِ السّلالةِ لا يعكسُ فقط أنّ جزءًا كبيرًا من الشّخصيّةِ الإنسانيّةِ متشكِّلةً من عواملِ الوراثةِ والبيئة، ولكنّه يتعدّى ذلكَ للقولِ بأنّ الحياةَ خاضعةٌ لقوانينِ الوراثة.. ولأنّ كلّ البشرِ ينتهونَ بالحصولِ على قَدْرٍ محدودٍ من الخِبرةِ في الحياةِ مهما عاشوا؛ فإنّ كلَّ وجودٍ بشريٍّ يتطابقُ-بدرجةٍ ما-مع نمطٍ بدائيٍّ يرجعُ لأُصولِ الإنسان..

وإذ نرى مخطوطاتِ الغجريّ ريميدوس لا تلبثُ أن تظهرَ بينَ وقتٍ وآخر؛ فإنّها كأنّما تؤكد أنّ كلَّ شيءٍ مكتوب. 

هناك من يَعُدُّ (مئة عام من العزلة) خارجةً على الزّمن، أو لها زمنُها الخاصُّ القائمُ بذاتِه؛ فالأمورُ التي تُعدُّ حقيقةً-نظرًا لطبيعتها-مثلُ الحياةِ والموت=نراها أمورًا مؤقّتةً، وغيرَ حقيقيّة.. فالحياةُ هي عدمُ معرفةِ الضّروريّ، بينما الموتُ هو الخطوةُ الأكثرُ يقينًا في اتّجاهِ المعرفة.. وداخلَ هذينِ القُطبينِ تدورُ معظمُ عناصرِ الرّواية. 

وبالمُجملِ فهناكَ تصاعدٌ زمني؛ إذ إنّ الأحداثَ تنمو في خلالِ تقادُمِ الأيّامِ، والسّنواتِ، والأزمان.. ولكنّها لا تخلو من مشاهدَ وفيرةٍ مُعتمِدَةٍ على خطوطٍ مُتعرّجَةٍ في نهرِ الزّمن؛ ما يولِّدُ انطباعًا أنّ الزّمنَ لَزِجٌ في هذه الرّواية، ودائمًا هنالكَ قفزاتٌ إلى المُستقبَلِ تُعطي القارِئ لَذّةَ معرِفةِ المجهول. 

إنّ غيرَ المعقول هو جزءٌ من الواقعِ في مئةِ عامٍ من العُزلة، وبمُنتهى المتعةِ يستطيعُ القارئُ أن يُصدِّقَ أنّ هناك عاصفةً مطريّةً استمرّت أربعَ سنواتٍ، وأَحَدَ عَشَرَ شهرًا، ويومين! وأنّ ريميدوس الجميلةَ طارَت، وأنّ هناكَ بِساطًا طائرًا، وأزهارًا تساقَطَت من السّماءِ، وغيرَ ذلكَ من الخيالِ المُدهِشِ والمنطقيّ في عملٍ غيرِ منطقي.

وشكَّلت الفكاهةُ محورًا رئيسًا في الرّواية؛ إذ العبقريّةُ في السّردِ مكَّنَت الكاتبَ من تضمينِ سُخرِيَةٍ وفكاهةٍ غايةٍ في الخفّةِ داخلَ عملٍ غايةٍ في الضّخامة. وفيها من القوّةِ في بعضِ صفحات الرّواية؛ لتجعلَ القارئَ يضحكُ بصوتٍ مرتفع! وقد استندَ الكاتبُ على أسلوبِهِ السّاخِرِ هذا-في رأينا-لدعمِ غيرِ المَعقوليّةِ في المُحتوى. 

وانطلاقًا من تجربةٍ شخصيّةٍ لكاتبِ هذا المقال، ومن استطلاعِ آراءِ بعضِ القُرّاء؛ فإنّ النُّسخَةَ التي قدّمها (صالح علماني) هي الأفضلُ على الإطلاق، إضافةً إلى احتوائها على مخطوطٍ لشجرةِ الأُسرةِ مفيدٌ جدًّا في فهم الرّواية؛ بسببِ تشابكِ الأسماء، وكَثرةِ الشّخصيّات. 

سنتَجنَّبُ الحديثَ عن الخاتمة؛ لأنّنا بذلك سنُفسِدُ متعةَ كثيرٍ من القُرّاءِ بالنّهايةِ المَمِيزَةِ للرّواية. 

ومن أبرزِ ما قيلَ عن العمل: 

يقولُ الشاعرُ العظيمُ "بابلو نيرودا" عن هذهِ الرّواية: "إنّها أعظمُ نصٍّ كُتِبَ باللّغةِ الإسبانيّةِ منذُ (دون كيشوت)". 

بينما يصفُها الرّوائيُّ المكسيكيُّ "كارلوس فوينتس" بقوله: "حينما قرأتُ المئةَ صفحةٍ الأولى من (مئةِ عامٍ من العُزلة)، بدأتُ سريعًا في كتابةِ ما أحسستُ به قائلًا: لقد انتهيتُ الآنَ من قراءةِ الإنجيلِ الأمريكيِّ اللّاتينيِّ، وأُحيِي فضلًا عن ذلك العبقريّةَ الحارّةَ، والمؤثّرةَ لأحدِ أصدقائي الأكثرَ حميميّة".

وعنونَت " الغارديان" عن الرّواية: "قليلةٌ هي الرّواياتُ التي تُغيّرُ حياةَ النّاس، وهذهِ الروايةُ واحدةً من تلكَ الرّوايات".. بينما علَّقَت صحيفةُ "نيويوك تايمز" قائلة: "تصحو بعدَ قراءةِ هذهِ الروايةِ الرائعةِ=كمن يصحو من حُلم.. عقلُكَ وخيالُكَ جامحانِ، بل ملتَهبَان، وأمامَكَ (غابرييل غارسيا ماركيز) العملاقُ كخيالِه، وجبريّتِه، وعظمَتِه.. فهو والرّوايةُ مُدهِشان".

ولا نملكُ إلّا أن نغبطَ الذينَ سيقرؤونَ العملَ للمرّةِ الأولى؛ لحجمِ المتعةِ التي تنتظرُهُم. 

الكتاب: مئةُ عامٍ من العُزلة.

تأليف: غابرييل غارسيا ماركيز.

ترجمة: صالحُ علماني.

دار النشر: المدى.

نوعية الكتاب: ورقي 501 صفحةً من القَطْع المتوسّط.