الموسيقا > موسيقيون وفنانون سوريون وعرب

فيروز ... بصوتها الملائكي سفيرتنا إلى النجوم

استمع على ساوندكلاود 🎧

ماذا عساكَ تقولُ فيمَن صوتُها بوّابةٌ للعبور ننتقل بها من صقيع أيامنا وقسوة آلامنا إلى مساحات لا متناهية من الجمال الوارف..لكأنّها الشَّمسُ أشرقَتْ علينا والجمالُ الذي استوطنَ قلوبنا!.

شمسٌ دافئةٌ أرسلَت خيوطها لتنمو عليها أغاني أيلول بورقه الأصفر فتعانق حكايات الربيع في ليالي نيسان، حاملةً معها أسرارَ البحر والقمر.

وعلى أنغام صوتها يلتقي المغتربون على جسر العودة ململمين ذكرى لقاء الأمسِ بالهُدُبِ.

إنّها ويا محلا نورها، فيروز بصوتِها الملائكيّ سفيرتُنا إلى النجوم.

وُلدت فيروز،نهاد حدّاد، في 21 نوفمبر،تشرين الثاني، عام 1933، كأوّل مولود لوديع حدّاد وليزا البستاني.

لم يكن أحد ليدرك أنّ تلك المولودة الّتي أطلّت في ذلك اليوم التشريني القارس البرد، ستبلغ من الشهرة والنجاح ما لم يصله أحد، لتدخل قلوب الملايين، وليصبح لقبها"سفيرة البشر إلى النجوم".

في منزل العائلة المتواضع والمؤلّف من غرفة واحدة ترعرعت "نِهاد حداد" الأكبر سنّاً بين إخوتها" هدى، آمال، جوزيف" وربّما كانت بداية فيروز مع الغناء ليست إلّا هدهداتها العذبة لأخوتِها الصغار يحنو بها صوتها الشجي قبل أن تسرقهم يدُ الوسن أوّل الليل.

وكما قُدّر للطير أن يحلّق، وللماءِ أن ينساب في جدوله، وكما كُتب على الفراشة الجمال كنصيب لا مفرّ منه، كذا كان قدرُ فيروز مع الغناء، وكأنه أحد القراراتِ المحتَّمة التي اتّخذتها الطبيعةُ فمدّت حنجرة فيروز بكلِّ الجمال والقوّة.

تلك الفتاة التي يزيّن محياها خفر هادئ رزين، لم تكن لتنفض عنها خجلها إلّا في لحظات الغناء، تلك اللحظات التي تستطيع أن تُدخِلها في أثير يحتضن روحها وكأنّها في عالمِها الخاص الذي لا ينتمي إليه أحدٌ سواها، عالم من نور استمرَّ منذ تكوينه في إضاءةِ العتمة داخل أرواحنا.

تلقّت تعليمها في مدرسة سان جوزيف في العاصمة بيروت حتى بدأت الحرب العالمية الثانية فاضطر والدها لنقلها إلى مدرسة عامة انضمّت لاحقاً إلى كورالها.

في الرابعة عشر من عُمرِها كان الحظ حليفها حين سَمِعَ الأستاذ في المعهد الموسيقي اللّبناني" محمد فليفل" صوتها خلال بحثِهِ عن أصوات شابّة بغيةَ ضمِّها إلى كوراله لغناء الأناشيد الوطنية في الإذاعة اللبنانية.

كان لـ"فليفل" الفضل الكبير في أن تُكمِل فيروز تعليمها في المعهدِ الموسيقي اللّبناني والّذي بدورِه هذّب وشذّب صوتها، كما علّمها تجويد القرآن الكريم.

استمرّت دراستها في المعهد الموسيقي الوطني مدّة أربع سنوات، لتتقدّم بعدها ضَمن باقة من المواهب إلى الإذاعة اللّبنانية.

هناك وقفت"نِهاد" شابة في مقتبل العمر، جميلة وخجولة، لكن تمتلك أوتار حنجرية ذهبية وإحساس لا مثيل له ليُدهش هذا المزيج الساحر اللجنة المكلَّفة بفحص الأصوات والتي كانت مؤلفة مِن حليم الرومي،نقولا المنى،خالد أبو النصر وآخرين..ولتكون أغنية"يا ديرتي" لأسمهان بوابة العبور التي اخترقت الحواسّ والتي جعلت حليم الرومي يتوقّف عن العزف في وسط الأغنية لدهشته وكأنَ الأوتار تقف مُنْصتةً أمام هيبة هذا الصوت وجلالته، وبعمق براءتها وبساطة عفويتها استمرّت فيروز لتغني مطلع "يا زهرة في خيالي" لفريد الأطرش ثم ما لبثت أن أُحيطت بأعضاء اللجنة الذين أثنوا مطوّلاً على صوتها الساحر.

وهكذا تحقّقت أولى أماني فيروز على بساطتِها بأن تعمل كمغنّية في جوقةِ إذاعة بيروت.

هكذا كانت البداية،مُشْبَعةً بالعذوبة والقيم الإنسانيّة ومفعمة ببساطة الحياة بعيداً عن تعقيداتها..حتى غدا صوتُها مبعثاً على السلام الداخليّ في كلِّ مرّة يزور صباحاتنا من حدود الأمس كالحُلُم مُلقياً التّحيّةَ على أرواحِنا التعِبة ومُزيلاً غبار الهموم والأعباء اليومية عن كاهلنا،باعثاً الحياة في حبّات البنّ مجدّداً نكهة الحنين والأمل في أيّامنا.

.

اللحن الأول الذي لَبِسَ صوت"نهاد حداد" كان لـِ"حليم الرومي"، من كَلماتِ"ميشيل عوض"، وبُثّت للمرّة الأولى على الأثير في الأول من نيسان عام 1950.

عام واحد فقط أضاف إلى رصيد"نِهاد" أغانِ متنوعة مختلفة الأنماط واللهجات ولعدّة ملحنين على رأسِهم حليم الرومي، خالد أبو نصر، نقولا المنى، مدحت عاصم، محمد محسن، توفيق الباشا وآخرين.

لم يكتفِ "حليم الرّومي" بإعطاء ألحانِه لـ"نهاد حدّاد"، بل أعطاها اسماً يليق بصوتها فكان اسمُ"فيروز" الذي سيرافقها في مسيرة طويلة ولتحمل هذهِ الحروف الخمسة معنى واحد فقط منذ الآن فصاعداً..فيروز صاحبة الصوت الملائكي، وليقوم "الرومي" لاحقاً بتقديم "فيروز" إلى "عاصي ومنصور الرحباني" ليبدأ عصر اسمه" العصر الرحباني".

البداية كانت مع أغنية"عتاب" من ألحان عاصي، وهي الأغنية الأولى التي لفتت الجميع إلى الصوت الباهر الجمال المفعم بالإحساس. ليصبح هذا الثالوث المقدّس مع مرور الأيام صرحاً فنّياً عملاقاً..لكن البداية كانت بإيمان شاب بسيط يُدعى"عاصي الرحباني" بصوت صبية واعدة تُدعى"فيروز". عَمِلَ عاصي مع منصور على تمكين "فيروز" من الأسلوب الشرقي في الغناء، ليشقّوا لاحقاً طريقاً مميّزاً اعترف عليهِ اصطلاحاً بـ"الفن الرحباني".

وبمباركةِ الموسيقى تلاقتِ الأرواح فتشابكت في عالم الحب، ليتكلّل هذا الحب الفريد بين عاصي وفيروز بالرابط المقدّس وليتزوّجا في عام 1954.

تُفتح البوابات أمام صوت فيروز، فتتوالى الدعوات من الإذاعات المختلفة لتغني عبر أثيرها، وكانت إذاعة دِمشق سبّاقة في ذلك، كما أنّ إذاعة صوت العرب في مصر أرسلت أحمد سعيد،المعتمد الرئيسي فيها، إلى لبنان ليعقد اتفاقاً مع الثلاثي،الأخوين الرحباني وفيروز.

وفي عام 1955 حطّ الثلاثي رحالهم في القاهرة،حيث كتبوا أهم أعمالهم الموسيقية آنذاك : "راجعون".كما غنّت فيروز العديد من الأغاني كثنائي مع الفنان المصري كارم محمود.

كانت ولادة ابنِها البكر"زياد الرحباني" عام 1956 لتنطلق في العام التالي بأول آداء لها أمام جمهور عريض وفي مكان عريق لكن فيروز وكأنّما قُدّر لها أن تقف في بعلبك منذ الأزل فكانت رهبة المكان جزءاً لا يتجزّء من سحر وعنفوان صوتها. وكان الحفل الأول لها في بعلبك عام 1957 ليأتي العرض الثاني لها في نفس المكان عام 1960 بعنوان"مواسم العز"، في 1961 عرض"البعلبكية"، "عودة العسكر في 1962.

شَهِدَ عام 1962 المسرحية الغنائية الأولى لفيروز بعنوان"جسر القمر"، ولعلّ البداية هي أصدق قراءة في ما سيأتي مع قادم الأيام من نجاح باهر منقطع النظير لما يُدعى بـِ"المسرح الرحباني"، في العام التالي كانت مسرحيتها الغنائية الثانية "اللّيل والقنديل".

وفي غمرة النجاحات المتوالية، كانت فيروز تحافظ على إطلالتها مع جمهور عريض تُخطف أنفاسه بمجرد ذكر اسمها..

وحين تُذكر حفلات فيروز الأولى، لا يعود من الممكن إغفال إطلالات "معرض دمشق الدولي"السنوية، حيث غنّت فيروز أجمل القصائد في دِمشق وباتت حفلاتها حدثاً سنوياً يُنتظر بشوق وشغف، ومناسبة للاحتفال بكل معاني الجمال والبهاء التي تستحضرها فيروز في صوتها، وروحها.

في عام 1964 كانت مسرحيتها الغنائية الشهيرة"بياع الخواتم" والّتي تمَّ تحويلها إلى فلم سينمائي تمَّ عرضه بعد عام واحد فقط.

1966 كانت مسرحية"أيام فخر الدين" وفي عام 1967 كان فلمها الثاني بعنوان"بنت الحارس" وفي نفس العام كانت مسرحيتها الشهيرة" هالة والملك" .

في عام 1968 كان لفيروز إطلالات على جمهورها العربي في المغرب العربي(تونس، الجزائر..) نجاحات متلاحقة، جمهور نهم لايشبع، وفيروز لا يُرتوى مِنها.

تتوالى مسرحيات فيروز وتتوالى النجاحات..مسرحية"الشخص" 1968، فلمها الغنائي"سفربرلك"في نفس العام.

"جبال الصوان" في 1969، "يعيش يعيش" 1970، "صح النوم" 1971، "ناطورة المفاتيح" و"ناس من ورق" 1972، "المحطّة" 1973،"لولو" 1974، "ميس الريم" 1975، "بترا" 1977.

في عام 1970 كان جولتها الناجحة في البرازيل والأرجنتين، في العام التالي كان جولة أميركا(حفلات بوسطن، نيويورك، ديترويت، لوس أنجلوس، سان فرانسيسكو) والتي لاقت نجاحاً منقطع النظير.

تلاحقت الحفلات في لندن( حفلة الرويال فيستفال)، بغداد، القاهرة، المغرب، الكويت. كما شهِد الثالث والرابع من أيّار عام 1979 حفلتان في الأولمبيا، باريس، استراليا، كندا..

شاءت الأقدار أن تنتهي المسيرة مع رفيق الدرب"عاصي" بعد أن رحل صبيحة 21 حزيران عام 1986

لكن لا الدرب انتهى ولا المسيرة توقفت.. ألبَس زياد الرحباني-الأبن- صوت فيروز حلّة جديدة، مبتكرة، حالمة، وبنكهة حديثة تحمل عبقرية الابن، وأصالة الأب، وتراث رحباني كامل مُختمر لا يفقد شيئاً من رونقه بل يزداد لذّة في كل مرّة ينفخ فيه زياد من روح الحداثة لتعود فيروز وتغنّيه...وليعود جمهورها مخموراً منتشياً.

تتوقف المسرحيات لكن الألبومات تتوالى "معرفتي فيك"، "كيفك أنت"، "وحدن"، "إلى عاصي"، "مش كاين هيك تكون"، "ولاكيف"، ليأتي ألبومها الأخير وليس الآخر "في أمل".

غنّت السيّدة فيروز الشعر الحديث، القديم، رتّلت، وصَلَّتْ، أنشدت الأغاني الشعبية والتراثية.

غنّت للحب، للفرح، للحياة، للوطن، للحرّية، للجمال، للإنسان..

جمعت أغانيها الّتي تُقدّر بأكثر من 800 أغنية، قامات عِملاقة كتابةً وتلحيناً إلى جانب الأخوين الرحباني، تألق صوتها بكلماتِ سعيد عقل، طلال حيدر، نزار قبّاني، جوزيف حرب..ولَمع جوهره بألحان فيلمون وهبي، محمد عبد الوهاب، نجيب حنكش، زكي ناصيف، حليم الرّومي..

لفيروز في عيد ميلادها....كل عام والكون أجمل بوجودك.

.

.

.

".. ليكن للعلماء علم بالصوت و للخبراء معرفة ، و ليقولوا عن الجيِّد و العاطل ، أنا أركع أمام صوتها كالجائع أمام اللقمة ، أحبه في جوعي حتى الشبع ، و في شبعي أحبه حتى الجوع ، أضم يديّ كالمصلّين وأناديكَ : إحفظْها ! إحفظها !

تغنّي لنا الأسرار التي جهلناها ، و الأحلام التي نسيناها ، تغنّي و صوتها مكشوف كاليد المفتوحة ، وتغنّي و صوتها محجّب كوجه خفضه العذاب و الخفر إلى رجاء الأرض ، حتى لو لم يُكتب لها شعر جميل ، فإن صوتها كفيل أن يجعل أي كلام شعراً جميلاً ، حتى لو لم يكن اللحن رائعاً ، فإن صوتها كفيل أن يجعل أي لحن رائعاً ، لأن صوتها هو الشعر، و الموسيقى ، و .. الصوت " .

• الخاتمة/ مأخوذة من مقال للكاتب الكبير أنسي الحاج في جريدة الأخبار بعنوان"أحبّها بإرهاب" .