الاقتصاد والعلوم الإدارية > اقتصاد

الدين العام و الإنفاق العام في الولايات المتحدة الأميركية

بينما كانت الصينُ تحتفلُ في العامِ 2013 بحلولِ عامِ الأفعى، كان المهتمون بالشأنِ الاقتصادي بانتظارِ الموازنةِ الاتحاديةِ الاميركية، وما يتعلقُ فيها من حجمِ الدينِ العامِ الأمريكي الذي كانَ يشغلُ الرأيَ العامَ العالمي. إذ هل ستتمكن الولايات المتحدة من تدبر شأنهِ في الأعوامِ المقبلةِ أم لا؟ تجدر الإشارة هنا إلى أن الموازنة العامة تشمل كلا من النفقات الحكومية (الإنفاق العام) والإيرادات العامة، كما تتضمن الفرق بين الإيرادات العامة والنفقات العامة في حال وجوده مع معلومات كافية عن هذا الفارق. بدأ العجزُ في ميزانيةِ الولاياتِ المتحدة يظهرُ واضحاً بعد نهايةِ ولايةِ الرئيسِ كلينتون، حيثُ ازدادت النفقات بشكل كبير مقارنةً بالإيرادات. لكن السؤال الذي يطرح نفسهُ هنا هو: لماذا تلجأ الدول للاقتراض؟ إنّ الجوابَ في غايةِ البساطة، إذ كما كما يلجأ الأفرادُ للاقتراضِ عندما تزيدُ نفقاتهم عن مستوى دخلهم، فإن الدولَ تلجأ أيضاً لنفس السلوك، وذلك لتمويلِ تفقاتها التي تفوقُ مستوى دخلها.

من هنا نفهمُ بكلّ بساطةٍ أنّ الدينَ العامَ هو محصّلة العجزِ في الموازنةِ، حيث يتمّ سدّ هذا العجزِ من خلال طرقٍ مختلفة، منها: إصدارُ سنداتِ الدينِ العام، أو الاقتراضُ من المؤسّساتِ الماليةِ العالمية كـالبنكِ الدوليّ.

لم تعد قضيةُ الدينِ العامِ الأمريكي مسألة شائكة لصُنّاعِ القرارِ الأمريكي، إذ أنهم باتُوا على مستوى عالٍ من الخبرةِ في كيفيةِ التعاملِ معَ هذهِ القضيةِ. لكن هل سيستمرّ هذا الحالُ وقتاً طويلاً؟ أم أنّ الولاياتِ المتحدةَ بحاجةٍ لإيجادِ حلّ جذري لإعادةِ الأمورِ إلى نصابها؟ وما هوَ الحلّ المناسبُ في هذهِ الحالةِ ؟ يرى بعضُ المحلّلينَ اعتماداً على نظريّةِ كينز (التي تقولُ بأهميةِ عملِ كلٍ منَ القطاعينِ العامِ والخاصِ معاً، حيث يشيرُ كينز إلى أفضليةِ الاقتصادِ المختلط على اقتصاد السوقِ المفتوحِ "الذي يرفضُ أساساً تدخّلَ الدولةِ في الحياةِ الاقتصادية ") أنه لولا توسّعُ الحكومةِ في إنفاقها لتدهورَ الوضع الاقتصاديّ أكثرَ ممّا هوَ عليهِ الحالُ الآن، بينما يرى البعضُ الآخر أنّ إيجادَ توازنٍ بينَ النفقاتِ والإيرادات أمرٌ ضروري يجبُ السعيُ لتحقيقهِ، وعلى هذا فإنّ المعركة بينَ الطرفينِ لن تنتهيَ على ما يبدو.

انخفاضُ معدل نمو الناتج المحليّ الإجماليّ:

عندما يصلُ العجزُ في الموازنةِ الاميركيةِ إلى أرقامٍ قياسيّة تاريخيّة، فإن ملاّك المشاريعِ الصغيرة وأفراد الطبقةِ الوسطى عادةً ما يمارسونَ ضغوطاً قويّةً على الكونغرس لزيادةِ وتيرةِ عمليّةِ تخفيضِ العجز.

إنّ الوصولَ إلى حالةِ التوازنِ بينَ نفقاتِ الدولةِ وإيراداتها يبدو أمراً غير ممكنٍ بسببِ الزيادةِ الكبيرةِ في الانفاقِ العامِ الأميركيّ ، خصوصاً مع التعهداتِ التي قامت بها حكومة الولاياتِ المتحدةِ والتي سيتمّ بموجبها إنفاقُ مبالغَ ماليّة كبيرة من خلالِ برنامج الرعاية الطبية و الضمانِ الاجتماعيّ للمتقاعدينَ و نفقاتِ الدفاع . لكن كيفَ وصلَ حالُ العجزِ في الموازنةِ الأمريكيّةِ إلى هذه الحالةِ بهذهِ السرعةِ!؟ ألم يكنِ الاقتصادُ الأمريكيّ بحالٍ جيدةٍ في السنواتِ الـ 15 الماضية بناءً على تقاريرَ وأرقامٍ تثبتُ ذلكَ؟؟

لقد كان الاقتصادُ الأمريكيّ في خمسيناتِ القرنِ الماضي ينمو بمعدلِ نسبته بين 4-5% سنويّاً، بينما لم يشهد الاقتصادُ الامريكيّ نموا منذُ نهايةِ تسعينياتِ القرنِ الماضي سوى خلالَ عامينِ حصلَ فيهما نموّ في الناتجِ المحليّ الاجماليّ الأمريكيّ. لذا فإنّ الحكوماتِ الأمريكيّةَ المتعاقبة قامت باستخدامِ أرصدةِ العجزِ لدعمِ النمو الاقتصاديّ، ولدفعِ الاقتصادِ إلى الأمام، وذلكَ من خلالِ برامجَ متعددةٍ مثلَ: برنامج الرئيس جورج بوش الابن لخفضِ الضرائب، وبرامجِ العملِ الحكوميّةِ التي تعتبرُ سياساتٍ أكثرَ انتقائيةَ. لكنّ هذهِ البرامج ترافقت معَ تكاليفَ عاليةٍ جدا لا يمكنُ تجاهلها كمَا أنّهُ لا يمكنُ التراجعُ عن دعمها، أو وقفُ الإنفاقِ عليها كالرعايةِ الصّحيّةِ والحربُ في العراقِ وأفغانستان، ممّا زادَ الأمرَ صعوبة، وسبّب فوضى كبيرة، وزادَ من حجمِ الإنفاقِ العام.

لماذا لا تقومُ الحكومةُ بكلّ بساطةٍ بخفضِ الانفاقِ و زيادةِ الضّرائب !؟

قبل الإجابة على هذا السؤال، لا بد أن نشير إلى حقيقة هامة وهي: إنّ من أهمّ مصادرِ الإيراداتِ العامّة هي الضّرائبُ على الأفرادِ والشركاتِ و الضرائبُ غير المباشرةِ. كما أنه عندما يتعلّقُ الأمرُ بخفضِ الإنفاقِ وزيادةِ الضرائبِ فإنّ المشكلةَ الكبرى هيَ أنّ لكلٍّ من هذينِ الخيارينِ مخاطرهُ، كما أنّ أحدهما لا يعوّض الآخرَ دائماً. فعلى سبيلِ المثالِ إن قامتِ الحكومةُ بخفضِ الإنفاقِ العام عبرَ تسريحِ عددٍ منَ الموظّفينَ في القطّاعِ الحكوميّ، فإنّ ذلكَ سيؤدّي إلى بطءِ النموِّ الاقتصاديِّ، وبالتّالي انخفاضِ حصيلةِ الضّرائبِ، أمّا لو قامتِ الحكومةُ برفعِ الضّرائبِ فإنَّ هذا سيؤدّي إلى خفضِ الدّخلِ المتاحِ للتّصرّفِ لدى العائلات، وخفضِ أرباحِ الشركات، ممّا يؤدّي بدورهِ لكبحِ عمليّةِ النّموِّ الاقتصاديِّ أيضاً. لهذا غالباً ما يلجأ السّياسيّونَ إلى سياساتٍ ماليّةٍ معقّدةٍ ليحصلوا على النتائجِ المطلوبةِ دونَ أضرارٍ جانبية أو حتّى معَ أضرارٍ لكن بالحدِّ الأدنى.

من ناحيةٍ أخرى فإنَّ الواقعُ يظهرُ أنّ أكثرَ طبقةٍ متأثرةٍ بالضّرائب هيَ فئةُ الأفرادِ، حيثُ أننّا إذا نظرنا إلى الإيراداتِ منَ الضّرائبِ المحصّلةِ، فإنّنا نجدُ أنّ النسبةَ المحصّلة منَ الأفرادِ تشكّل ُحوالي نصفَ حصيلةِ الضّرائب السنوية.

إن الإنفاقَ الاستهلاكيّ يشكّلُ ما يتجاوزُ الـ 70% منَ الإنفاقِ العام، ممّا يجعلُ من مسألةِ رفعِ الضّرائبِ أمراً شديدَ الحساسيةِ، إذ أنّ رفعَ الضّرائبِ يؤدّي لتخفيضِ حجمِ الدّخلِ المتاحِ للأفرادِ "تم ذكره آنفا". وبما أنّ الذين العامَ يزدادُ يوميّاً، فالسؤالُ الذي يطرحُ نفسهُ: هل يعتبرُ التمويلُ بالعجزِ أمراً جيّداً، أم أنّهُ على الولاياتِ المتّحدةِ مراجعةُ سياساتها المطبّقةِ في السّنواتِ الماضيةِ، والعملُ على الموازنةِ بينَ النفقاتِ والإيراداتِ !؟

الخُلاصة :

إنّ البياناتِ الماليّةَ الخاصّةَ بالحكومةِ الأميركيّة خلالَ الـسّتينَ عاماً الماضيةَ تشيرُ إلى أنّ الحكومةَ حاولت جاهدةً تخفيضَ نفقاتها لتحقيقِ نوعٍ منَ التوازنِ بينَ نفقاتها وايراداتها، لكنّ الواقعَ يشيرُ إلى أنّ الوصولَ إلى هذهِ المرحلةِ يعدُّ ضرباً منَ الخيالِ خصوصاً معَ السّياساتِ الأميركيّة التي شهدت خلالَ القرنِ الحاليّ التوسّعَ في برامجِ الضّمانِ الاجتماعيِّ و خفضاً مستمراً للضرائبِ "في عهدِ الرّئيس بوش" و من ثمّ برنامج الرّعايةِ الصّحيّةِ في عهدِ الرّئيسِ أوباما و حروبُ أفغانستان و العراق و ليبيا . مَع هذا، فإنّ الطّلبَ المستمّرَ على سنداتِ الدينِ الأمريكية، وتفضيلُ المستثمرينَ لهذهِ السّنداتِ على غيرها، جَعَلَ من تمويلِ الدّينِ الأمريكيّ العام أمراً سهلاً بالنّسبةِ للحكومةِ الأمريكيّة. ممّا يعني أنّه لم يعد ضرورياً الوصولُ إلى مرحلةِ التّوازنِ بينَ النفقاتِ والإيراداتِ. لكن ممّا تجدرُ الإشارةُ إليهِ هو أنّ الاقتصادَ الأمريكيّ شهدَ تباطؤاً ملحوظاً خلالَ السنواتِ الخمسةَ عشر الأخيرةَ بشكلٍ أكبرَ ممّا شاهدناهُ خلالَ الـسّتّينَ عاماً الماضية، وهذا كلّهُ ناجمٌ عن قيامِ الحكومةِ بالاقتراضِ لتمويلِ نفقاتها، ممّا يعني بالضّرورة مزاحمةَ نموّ القطاعِ الخاصِّ، ممّا أدّى إلى تباطوء النّموِّ الاقتصادي وارتفاعِ معدّلاتِ البطالةِ. إنّ القيام بمهمّة موازنةِ طرفيِّ الموازنةِ ليست بالأمرِ الهيّنِ، وحتّى لو قُمنا باستخدامِ حلولٍ مؤقّتةٍ كالاقتراضِ فإنّه وفي لحظةٍ ما ستحينُ اللّحظةُ الحاسمةُ، وسنلعبُ نحنُ دورَ مؤسّسةِ جبايةِ الدّيونِ، بينما نشاهدُ الارتفاعَ الكبيرَ في تكاليفِ الرعايةَ الصحيّةَ والإنفاقِ الحربيِّ، في هذهِ اللحظةِ يصبحُ منَ المستحيلِ إعادةُ التوازنِ بينَ النفقاتِ والإيراداتِ. ربّما كانَ " كينز " محقّا فيما يتعلّقُ بتدخّلِ الدّولةِ في الحياةِ الاقتصاديّةِ عندَ الضّرورةِ، لكنَّ ما لم نتوقعهُ هوَ هذا التّوسّعُ الكبيرُ في الإنفاقِ الحكوميِّ.

المراجع:

هنا

هنا