الرياضيات > الرياضيات

إحتمالات جينيّة أنقذت حياتنا!

كلما تعمقنا في العلوم ازداد شعورنا بترابطها، حتى أننا نشعر بأن حياة الشجرة كحياة الإنسان، وهيكل الذرة كهيكل هذا الكون، والتفاعلات الكيميائية ليست إلا معادلة رياضية ما تحكمها قوانين الانجذاب أو الأولوية وغيرها.. يحمل مثالنا التالي صورة عن تداخل العلوم في علاقة رياضية احتمالية جميلة يستخدمها جسمنا كل يوم ليتمكن من الدفاع عن نفسه ضد العدد الهائل من العوامل الممرضة التي قد تهاجمه.

إن وسيلة الدفاع الأساسية في جسم الانسان هو الجهاز اللمفي بما فيه من كريات بيضاء وبالعات تهاجم العوامل الممرضة بمجرد تعرفها عليها، ويكمن التعقيد في هذا الموضوع بأن الجسم يتعرف على كل عامل ممرض بواسطة شيفرة موجودة على سطحه بشكل خاص، وحالما يتعرف على هذه الشيفرة فإنه يركب قالباً مناسباً يسمى "الضد" لهذه الشيفرة ليرتبط بها بشكل محكم ويتغلب عليها بالآلية المناسبة.

ولكن أليس تركيب كل مادة في أجسادنا مضبوطاً بواسطة الجينات المحمولة على الصبغيات؟

ونحن نملك عدداً محدداً من الجينات، فكيف سنركب قالباً خاصاً لكل عامل ممرض ممكن أن يدخل إلى الجسم علماً أن العوامل لا تعد ولا تحصى؟!

هنا وعلى هذا المستوى الدقيق والجزئي ظهرت براعة الرياضيات في حل المشكلة، وجعل الجين المسؤول عن تركيب القوالب التي تحملها الكريات البيضاء قادراً على تركيب عدد غير منته من القوالب، حتى يناسب كل قالب هذا العامل الممرض ويتمكن من القضاء عليه بالشكل الأمثل.

إليك الحقيقتين التاليتين:

1- يملك جسمنا 5 أنماط من هذه الأضداد بشكل طبيعي.

2- على كل ضد قطعة صغيرة تتألف من 3 أجزاء وهي V ، J ، D.

وعندما يدخل العنصر الممرض إلى الجسم يبدأ الجسم بتركيب هذا الضد حسب جيناته وبالتالي فإنه سيباشر بصنع القطع V ، J ، D أيضاً.

وحالما ينظر إلى مخزونه الجيني سيجد أنه يملك 10 مورثات للقطعة V و 10 للقطعة J وكذلك D وحتى يشكل القطعة VJD فإنه يملك 10×10×10=1000 طريقة لتركيبها وبالتالي حصل على 1000 نمط مختلف من الأضداد قادر على التعامل مع 1000 عامل ممرض وهذا يعد مؤشراً جيداً لقدرته على التنوع في الأضداد، ولكن حتى يستجيب بشكل نوعي أكبر فإنه يجري تعديلاً كيميائياً صغيراً على واحد من القطع V ، J ، D في كل حالة من ال 1000 السابقة، أي أنه سيحصل على 1000×3= 3000 نمط من الأضداد.

دعني أنتقل بك إلى الواقع.. إن الأرقام السابقة هي أرقام وهمية في حين أن الأرقام المقابلة لها غير معروفة ولكنها كبيرة جداً، وكل تعديل كيميائي يقوم به الجسم على واحدة من تلك القطع فإنه يمكن أن يجرى بآلاف الطرق، وبذلك نحصل على احتمالات شبه لانهائية من إمكانية تشكيل القطعة VJD رغم أنها محكومة بعدد واحد ومحدد من الجينات. وهذه العملية تسمى إعادة الترتيب الجيني، وهي تعني استنباط أشكال مختلفة من المادة بإعادة ترتيب جيناتها ذات العدد المحدود.

وإن عدنا إلى نقطة الصفر، علينا أن نعترف أن ثلاثة قطع جينية صغيرة قد أنقذت حياتنا آلاف المرات، ولو أن جسمنا لم يعد ترتيب هذه الجينات واستمر بترتيبها دائماً بشكل واحد لحصلنا على نمط واحد من الأضداد ولما تمكنا من الدفاع عن أنفسنا..

المصدر :

Histology: A text and atlas - Michael H.Ross & Wojciech Pawlin