الفنون البصرية > فن وتراث

رقصة أديغة..شاب وفتاة وآلة أكورديون

أن تكونَ أديغة يعني أن تكون حرّاً بما يكفي لتدَعَ روحَ الجمالِ تنتشرُ في المكان، هذاما لمستُهُ عندما دُعيتُ لحضورِ حفلِ زفافٍ شركسيّ لصديقٍ قديم، يقفُ الشبّانُ في ضفّة والفتيات تَقفْنَ في الضفّة المقابلة، كلّ واحدٍ منهم يتحرّى نظيره، ولعلّي وضعتُ نفسي مكانَ أحدِهم، أتخيّرُ بيْن الجميلات، من تُراها سترقصُ معي في ساحةٍ فنيةٍ يستعرضُ فيها الجيلُ الجديدُ كلّ مواهبهِ التي ورثها في جيناتِه عن أجدادِه الغابرين. عُدتُ بعدَها لأرى هذا التنوعَ الرائعَ في الأعمالِ بين الطرفين، فتجدُ ما هم أعمارُهم ما بين السادسةِ وحتى الثانيةِ والعشرين، بالرغم من صغرهم، يؤدّون وبمنتهى الحريّة والجُرأة، رقصةً شعبيةً فلكلورية فنية، على وقعِ موسيقى مميّزة جداً بسرعتِها، آلتُها الأوكورديون ودفٌّ صغيرٌ وأيادٍ بشريةٍ تصفّقُ في الديجاغو أو حلبةِ الرقص، فما أحلاهُ من مشهد!

يروي لي صديقي أنّ معظمَ من يتزوّج كان قد التقى بفتاةِ أحلامِه في الديجاغو، فكم هو جميلٌ ذلك الشعورُ الذي تمنحُه تلك العاداتُ بتدفقِ المشاعرِ بين أفرادِ المجتمع، حتى يعمّ الفرحُ على الجميع!

من هم الشركس أو الأديغة؟

هم شعبٌ آريٌّ قوقازيّ سكنَ أرضَ تشيركيسيا منذُ آلافِ السنين، يُعتقد أنّ أولَ من أطلقَ عليهم اسم "أديغة"هم الإغريق، تتميزُ أرضُ تشيركيسيا بوُعورتِها، ما جعلَها عصيةً على جميعِ الغزاةِ عبرَ التاريخ، بقيَ شعبُ أديغة وثنياً حتى قدمتْ إليه المسيحيةُ الأرثودوكسية، ومن بعدها الإسلام، ولكن مع هذا، حافظتْ شعوبُ أديغةعلى أمريْن أساسييْن: "اللغة والهوية"، فبالرغم من قوةِ الدين في التأثير على الشعوب، إلّا أنّ الأمرَ لم يكنْ ليغيّرَ من شخصيةِ شعبِ أديغة.

بدأتْ آلامُ هذا الشعبِ عندما غزَتْ الإمبراطورية الروسيّة أراضيهم في القرن التاسع عشر، وحصلت هناك حربٌ كبيرة، هُزم فيها المحاربون لأول مرّة، ولآخر مرّة. حيثُ سيطرتْ روسيا على كامل أراضيهم، وضاعَ حقُّهم بسبب مساومةٍ حصلتْ بين الدولةِ العثمانية والإمبراطورية الروسية، تقضي بتهجيرهم من أراضيهم وتقسيمهم إلى قسميْن: قسمٌ يهاجرُ إلى العالم العربي وتركيا، وقسمٌ إلى شرقِ أوروبا. لتحصلَ روسيا على أرضٍ بلا شعب، مليئةٍ بالخيرات، وتحصلَ الدولةُ العثمانية على خِيرةِ المحاربين الأفذاذ وعلى مزارعين ممتازين، حيث وزّعتْهم في الأماكن النائية في سوريا والأردن وفلسطين ولبنان ومصر وتركيا. أمّا القسمُ الآخرُ منهم فقد توزّع على سلوفاكيا وصربيا وأوكرانيا وبلغاريا، لتكونَ مأساةُ شعبٍ بأكملِه، يتجزّأُ حولَ العالم!

لكنّ روح أديغة الحيّة فيهم منعَتْهم من الانفصالِ عن هويّتهمُ الثقافية، فحافظوا على جزءٍ كبيرٍ من تراثِهم، بَقيوا مشتتّين في الأرضِ نعم، لكن كلٌّ منهم يشكّل قطعةَ بازل في لوحةٍ فسيفسائيةٍ كبيرة، اسمها تشيركاسيا.

ولرقصةِ أديغة العديدُ من الأشكالِ والأنواع، فهناك القافا، وهي الرقصةُ الأرستقراطية، حيث نلحظُ الكبرياءَ وعزّةَ النفس. أمّا رقصةُ الإسلامية والزّغالات فنرى فيها العنفوانَ والقوةَ الجسدية. وهناك أيضاً زفاكؤ، تلباتشأس، والودج، وهذه ليست كلّ الرقصات، فهناك كثير من الرقصات التي نُسيت أو انقرضت نتيجةَ التقادم، فهذه الرقصاتُ عمرها آلاف السنين، مثل: قاشوا، يلياش،حاكواتش، الغواشه، غاسه. غواشه، مافا ،تلبارقا.

ومن بين هذا الفلكلور الرائع، رقصةٌ يؤدّيها الشبّان في الأفراح، ويكونُ فيها دورُ الشابّ كسبُ الاحترام بين الحاضرين، وإثباتُ الرجولةِ والصحّة من خلالِ القيامِ برقصةٍ سريعةٍ جداً يُغري فيها الفتاةَ برشاقتِه وقوّتِه.

للوهلةِالأولى، ستعتقدُ أنّها حركاتٌ عشوائيةٌ غيرُ منتظمة، ولا علاقةَ للأنغامِ الموسيقية بما يُؤدّيها لفتى على الأرض، لكنّك إذا دقّقتَ جيداً ستجدُ أنّ الموسيقى ليست تكراريّة، بل تمرُّ بأطوارٍ مميّزة لأصحابِ الأذن الموسيقية، ومع كلّ طور لابدّ للشابّ أن يميّزَ نفسَهُ في الأداءِ والتمايل، فتجدُه تارةً يرقصُ ببطءٍ وتارةً يُسرِع وتارةً يتوقفُ، وتارةً ينحني على ركبتيْه ويصفّقُ لنظيرتِه التي تدورُ حولَه دوراتٍ كاملة.

أمّا الفتيات فتكُنّ محتشماتٍ فيما تفعلن، إذ يندرُ أن ترى الفتاةَ تلامسُ الشابّ أثناءَ الرقص، وتجدُ رقصةَ الفتاةِ في غايةِ الخجل والحياء، فلا يميّزُها حركاتُ خصرٍ أو كتفين، فقط حركاتٌ في القدمين بخفّة، وتحريكُ الذراعين للأسفلِ في حركةٍ تُغريبها الشاب بفتنتِها، وفي نفس الوقتِ تحافظُ على حيائِها وحِشمتِها.

ونجدُ خلالَ الرّقصِ أنّ الفتاةَ تقتربُ من الشابّ ثم تهربُ منه، وكلّما هربتْ منهُ يقومُ هو بحركةٍ مميزةٍ ليردَّها إليه، في صراعٍ من أجل كسبِ الحبّ والمودّة، كلّ هذا يحدثُ في ثوانٍ قد لا تتجاوزُ الثلاثين إذا ما كان عددُ الحاضرين كبير، وقد تمتدُّ إلى دقيقةٍ ونصف إذا كان الحضورُ قليل، حيث تتراجعُ الفتاةُ والشابُّ لغيرهما، فينزلُ شابٌّ آخرٌ وتنزلُ فتاةٌ أخرى، وهذه الحركة ليست مرتبة مسبقاً وإنما تحدثُ بشكلٍ عفويّ، أي لا ترتيب في هذه العملية. وهنا يشغلُ بالكَ سؤال، تُرى أيّ الجميلاتِ ستكونُ شريكتي في الرقص؟

ومِن أجملِ ما قرأتُ في أحدِ المصادرِ عن تنظيمِ الرقصةِ وتناغمِها: "يبدأُ الرقصُ بالقافا أو الزفاكؤ وتتبعُهُ إسلامية فالزغالات، وينتهي الرقصُ بالودج. هذا التسلسلُ ليسَ عبثاً بل يُرادُ به الإشارةُ إلى التدرّجِ المنطقيّ للعاطفةِ التي تتولّدُ بين شابٍّ وفتاةٍ في الحياة العادية.

فعندَ اللقاءِ الأولِ بينهما يكونُ لتلكَ العاطفةِ شكلٌ خجولٌ واختباريّ، وعندما تتوطّدُ معرفتُهما ببعضهما أكثر تأخذُ تلك العاطفةُ شكلاً آخر، وعندما يصلان إلى قمةِ الوفاق تصلُ تلك العاطفةُ إلى أوْجِها.

كلُّ رقصةٍ من الرقصاتِ الشركسية تعبّرُ عن مرحلةٍ من مراحلِ العلاقةِ العاطفيةِ التي يمرُّ بها الشابُّ والفتاة. لذلك لم يكن من قبيْل الصدفةِ أن تتعاقبَ الرقصاتُ الشركسيةُ في الدجاغو بالشكل الذي ذكرناه، ويكونُ الرقصُ ضمن مراحل محددة مسبقاً، فيبدأُ بما يُسميهِ شبّانُ وشابّاتُ أديغة بـ "اللقاء الأول"، حيث غالباً ما يكونُ بالقافا أو الزفاكؤ وتُؤدّى بوتيرةٍ معتدلة وتميلُ للسرعة قليلاً، تلك الرقصةُ مبنيّةٌ على خطواتٍ بدائيةٍ كالمشي الطبيعي، يُشاهدُ الشابّ الفتاةَ لأولِ مرةٍ في القافا، فتسمى "رقصة اللقاءِ الأول"، هو معجبٌبها ويدعوها، وقبلَ البدءِ بالرقص يدورُ الشابّ والفتاةُ حول بعضهما البعض، بحيثُ يكونُ كلٌّ منهما على يسارِ الآخر، وهذه إشارةٌ أنّه لايحقُّ لأحدٍ بأن يقاطع الشابَّ أثناءَ رقصِه مع الفتاة، فهي الآن تحتَ حمايتِه وفي عُهدتِه.

يبدأُ بعدها الحوارُ الرّاقص، ولا نبالغ إذا سمّينا القافا حواراً، ويأخذُ كلٌّ منهما مكانَهُ ضمنَ حلبةِ الدجاغو، ذلك المكانُ الذي يحملُ الكثيرَ من المعاني من الناحية الفلسفية للقافا، وهو بالنسبة للشابّ رمزٌ لموقعِهِ في الحياةِ والمجتمع، وهو تجريدٌ لمكانتِه ومنزلتِه وسَطَ مجتمعه. كذلك الأمرُ بالنسبة للمكان الذي تحتلّهُ الفتاةُ في حلبةِ الرقص، فهو أيضاً يرمزُ لموقعها بينَ أهلها ومجتمعها، وهي برقصها في حدود هذا الموقع تحدّثُ الشابّ عن نفسِها، عن حياتِها في بيتِها، عن الاحترامِ والتقديرِ اللذين تحظى بهما من قِبَلِ محيطِها.

يُبدي كلٌّ منهما للآخر أجملَ ما لديه، وبنفس الوقتِ يُعيرُ جُلَّ اهتمامِه بالآخر، فالشابّ لايَحيدُ بعينيهِ عن الفتاة، وبالمقابلِ تُبدي له الفتاةُ العكس، بأنها لا تنظرُ إلى عينيه بشكلٍ مباشر، بل بنظراتٍ متواضعةٍ ملْؤُها الحياءُ الذي يجب أن تتمتع به الفتاة. من ثم تبدأُ المرحلةُ الأهم، وفيها يتبادلان المكانَ الذي يحتلّهُ كلّ منهما.

ما الذي تريدُ أن تقولَه لنا القافا بهذا التبادل بالأمكنة؟ إنّ كلّ شابّ يريدُ أن يقترنَ بفتاة، وكذلك الأمرُ بالنسبة للفتاة، تتبادرُ إلى ذهنه مسألةٌ هامةٌ وهي: كيف سيكونُ تصرّفُ وسلوكُ شريكةِ المستقبل عندما تصبحُ في بيتي أمام أهلي وأقاربي، أمام أصدقائي و مجتمعي؟ وبالمقابل كيف ستكون علاقتي بأهلها ومجتمعنا (عندما يأخذُ الشابّ والفتاة مكان الرقص)، هل سيكون كلّ منّا جديرٌ بالآخر؟ هل ستكون أهلاً ببيتي وتصونُه؟

بعد كلّ ذلك التبادلِ يعودُ كلّ منهما إلى مكانه، ويستمرُّ الحوارُ كما كان في الفترة الأولى، وتنتهي الرقصةُ هنا لتتدخلَ في المرحلة التالية.

رقصةُالنّسر، إنّ العتبةَ التالية في التدرّج العاطفي بعدَ القافا هي رقصةُ الإسلامية، تلك الرقصةُ الوجدانيةُ الجميلةُ والشائعة بين الشراكسة، والتي تُؤدّى بسرعةٍ معتدلة، يكون كلّ من الشابّ والفتاة قد تكوّنت لديهما فكرةٌ عن الآخر، ويكونا قد توصّلا إلى معرفةِ بعضهما البعض من خلال القافا.

في الإسلامية، يلاقي الشابُّ الفتاةَ بفرحٍ وسعادة، يرافقُها في الدائرة ويأخذُ منحىً أكثر جُرأة، فيحدّثها عمّا يُكنّهُ لها من مشاعرَ وأحاسيس، إن البُنية الشكليّة الإسلامية مبنية على الرقصِ في دائرةٍ تكونُ كبيرةً في البداية،ثم تأخذُ التنسيقَ تدريجياً إلى أن يلتقيَ الراقصان في منتصف الدائرة، ويبتعدان عن بعضهما ثانيةً لتُعادَ الكرّة.

رقصةُ الحبّ: الرقصةُ التاليةُ للإسلامية هي رقصةُ الزغالات، أسرعُ رقصاتِ القفقاسِ كلّه، يشعرُ الشابُّ في الزغالات بانتعاشٍ وهيجانٍ روحيّ، فهو يبحثُ عن كافةِ السُبُلِ والطرقِ للتعبيرِ عمّا يجولُ في نفسه، وهذا التنوعُ بأساليبِ التعبيرِ نراهُ جليّاً في تنوّعِ الحركاتِ والخطوات، فتارةً نرى الشابّ يرقصُ بسرعةٍ ضمنَ محيطِ الدجاغو، وتارةً نراهُ ينتقلُ بخطواتٍ جانبية، ومن ثمّ يرقصُ في المكان، وبعدها يقتربُ من الفتاة ثم يبتعدُ عنها، وهو خلالَ ذلك كلّه يحاولُ أن يُرِيَ محبوبتَهُ مهاراتِه وحذاقتِه في الرّقص. أما الفتاةُ فهي أكثرُ تماسكاً في عاطفتِها، غيرَ أنها مسرورةٌ وراضيةٌ لدأبِ وإلحاحِ ذلك العاشقِ، وكلّ حركاتِها متناسقةٌ بانسجامٍ مع تحركاتِ الشابّ.

رقصةُ الوِفاق: تأتي ذروةُ ذلك الهرم العاطفيّ ليُتوّج برقصةِ الودج التي تُعبّر عن تمامِ الوِفاقِ والتفاهمِ بينهما، ولا يُسمحُ للشابّ ولا بأيّ شكلٍ من الأشكال لمسُ الفتاةِ في المراحل السابقة، بل يُعتبر من المُعيبِ جداً فعلُ ذلك أو حتى لمسُ طرفِ ثوبِها، وكذلك يُحرّمُ عليهِ التكلّمُ معها، فالحديثُ هنا حديثُ الرّوحِ من خلال الجسد، أما الودجُ فهي الرّقصةُ الوحيدةُ التي يُسمح فيها للشابّ بمَسْكِ يدِ الفتاةِ والتحدثِ إليها مباشرةً والخروجِ عن قواعدِ الأدبِ والإتيكيت الشركسيّ المعروف.

وهكذا ينتهي الدجاغو برقصةِ الودج، تلكَ الخاتمةُ التي تعبّرُ عن الوِفاقِ الذي يتوصّلُ إليه كلٌّ من الشابّ والفتاةِ بشكلٍ حضاريٍّ بعدَ حوارٍ ومحاكاةٍ لطيفة، وكلّ ذلك ضمنَ الأعرافِ والتقاليدِ الشركسيةِ الأصيلة التي تنمُّ عن أدبٍ رقيقٍ ونُبْلٍ عميق.

كما أنّ لحفلاتِ الرّقص التي تتمّ غالباً أثناءَ الأعراسِ أو المناسباتِ أو السهراتِ أعرافًا وتقاليدَ معروفة لا يجوزُ تجاوزُها، ورغم ما تتعرّض لهُ من تأثيراتٍ معاصرة، إلا أنّها ما تزال تحافظُ على حدودٍ معقولةٍ من التميّزِ والالتزام.

تُسافر إلى الأردن فتجدُ الشركس يؤدّون هذه الرقصة، تأتي إلى سوريا فتجدُ نفس الرقصة،في فلسطين، لبنان، تركيا، شرق أوروبا، وحتى ما تبقى منهم في تشيركيسيا، هي الرقصةُ نفسُها!

الكلُّ يعرفُ هذه الرقصة بتفاصيلِ حركاتِها المعقّدة والمتنوعة، لأنهم ومنذُ طفولتهم يعرفون أنّ هذا هو تراثُ أجدادهم من أديغة، فهي هويتُهم، وآخرُ ما تبقّى لديهم من ميراث، يذكّرهم بأصلهم، بجوهرهم وحقيقتهم، بعينيها الزرقاوتين، وشعرِها البنّي، تتمايلُ بخجلٍ أمام شابٍّ يؤدّي معها رقصةً أسطورية، يستعيدون فيها روحَ الأجدادِ وأساطيرِهم، والكل يصفّقُ بسرعة، ثم تنتهي ويتركان مكاناً للقادمين من بعدِهم، يُلهمونَهم أنّ أسطورةَ رقصةِ أديغة ستبقى حيّةً طالما أن أرضَ تشيركيسيا موجودة.

تعرفوا معنا على لقطاتٍ مثيرة اخترناها لكم من رقصة أديغة:

المقطع الاول

هنا

المقطع الثاني

هنا

المقطع الثالث

هنا

[[[[vid:]]]]

[[[[vid:]]]]

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا