الفيزياء والفلك > فيزياء

هل رصد العلماء ما يدل على انفجارات للمادة المظلمة في مركز مجرتنا؟

تُشكل المادة المظلمة Dark Matter أحد الأسرار الكونية والفيزيائية الشهيرة، والتي يحاول العلماء البحث عن إجابةٍ وتفسيرٍ لها، ولكن دون أي جوابٍ شافٍ حتى الآن. وللتوضيح، فإننا نعلم أن المادة العادية تتكون من الذرات، والتي بدورها تتكون من نواة وسحابة إلكترونية، والنواة نفسها تتكون من البروتونات والنترونات، والتي بدورها أيضاً تتكون من جسيماتٍ أصغر هي الكواركات وهكذا. كافة هذه المكونات والجسيمات تشكل ما يعرف بـ "المادة العادية Ordinary Matter" والتي تتنبأ بها نظرية النموذج المعياري، النظرية الأنجح حتى الآن في فيزياء الجسيمات. ولكن ما لا تتنبأ به النظرية هو نمطٌ آخر من الجسيمات المادية، وهي المادة المظلمة، التي لوحظت آثارها في الكون. فقد وجد نتيجة لعدة أرصاد أن كتلة المادة العادية في الكون لا تكفي لتفسير حركة المجرات أو لتفسير شدة ارتباطها مع بعضها عبر قوة الجاذبية. (تعرف عن المادة المظلمة هنا)

ومنذ عام 2009، لاحظ علماء الفيزياء الفلكية انبعاثاتٍ غامضة من أشعة غاما من مركز مجرّة درب التبانة - حيث يعتقد أن المادة المظلمة تتركز بشكلٍ كثيف -. طرح العديد من العلماء تساؤلات حول مَصدر هذه الانبعاثات، ويعتقد بعضهم أن هذه الانبعاثات ناتجة عن تصادم جُسيمات المادة المظلمة في مركز مجرّة درب التبانة. أما الآن، فقد التقطت انبعاثات جديدة لأشعة غاما، مما سيُشكّل بالإضافة للإشارات المُسجلة سابقاً، دليلاً إضافياً يُساهم في تحديد مصدر هذه الانبعاثات، ومعرفة فيما إذا كانت تنشأ فعلا عن المادة المظلمة أم لا.

أحد التفسيرات المُقترحة للمادة المظلمة هو أنها تنشأ مما يعرف بـ "الجسيمات الضخمة ذات التفاعل الضعيف WIMP: Weakly Interacting Massive Particles"، وهي عبارة عن جُسيمات افتراضية، كل منها هو عبارة عن جسيم مادة وجسيم مضاد بنفس الوقت، ولذلك فإنه عندما يلتقى جسيمان من نمط WIMP فإنهما سيتعرضان للفناء (وفقاً لتفاعل المادة مع المادة المضادة). وبما أن حادثة الفناء التي تحصل عند التقاء جسيم مادة مع جسيم مادة مضادة تترافق مع إطلاق كمية من الطاقة، فكذلك التفاعل الافتراضي بين جُسيمين من نمط WIMP قد يؤدي لتحرير وإطلاق طاقة على شكل أشعة غاما، وهي الأشعة التي يتم تسجيلها بشكلٍ وفير في مركز مجرة درب التبانة وفقاً للمشاهدات التي يقوم بها تلسكوب فيرمي لأشعة غاما. قد تؤدي أيضاً الانفجارات التي تحصل في مركز مجرتنا إلى توليد الأشعة الكونية والتي قد تتفاعل أيضاً بدورها مع جسيمات الضوء الصادر عن النجوم، مما يمنحها مقداراً إضافياً من الطاقة لتصبح طاقة هذه الفوتونات ضمن مجال أشعة غاما. وللمرة الأولى، تمكن العلماء من التقاط أشعة تتوافق مع النتائج المتوقعة عن هذه العملية، وهي العملية المعروفة بـ "تبعثر كومبتون العكسي Inverse Compton Scattering"، حيث يؤدي حدوث هذه العملية إلى إنتاج أشعة غاما ذات مجالات طاقة مختلفة عن تلك الناتجة عن تفاعلات جسيمات المادة المظلمة.

لم يشارك عالم الفيزياء الفلكية دان هوبر في البحث الجديد، على الرغم من كونه يعمل في تليسكوب فيرمي، ولكنه كان من أوائل المشيرين إلى احتمال وجود إشارة خاصة بالمادة المظلمة في بيانات تليسكوب فيرمي، وهو يقول :" يبدو بشكلٍ واضح من البحث الجديد أن هنالك تأثير لتبعثر كومبتون المعكوس في إشارة أشعة غاما المسجلة. هذا الجزء قد يكون ناتجاً عن نفس المادة المظلمة التي كنا نتحدث عنها طوال السنين السابقة، والتي نعتقد أنها مصدر انبعاثات أشغة غاما ".

تم نشر نتائج البحث في 23 تشرين الأول/اكتوبر خلال الندوة العالمية الخامسة لتليسكوب فيرمي والتي أقيمت في ناغويا، اليابان، وتم نشر البحث في مجلة Physical Review Letters.

من ناحية أخرى لا يمكن اعتبار انبعاثات أشعة غاما كدليل حاسم على وجود المادة المظلمة، خصوصاً أنه يوجد أجسام وعمليات فلكية أخرى قادرة على توليد نفس هذه الإشارات، مثل النجوم النباضة Pulsars ذات الدوران السريع جداً، ويقول كيفورك أبازاجيان المشارك في البحث :" يمكن لنماذج مختلفة أن تقوم بتوليد نفس هذه الإشارات، ولكن التفسير المعتمد على المادة المظلمة هو الأسهل، ويوجد المزيد والمزيد من الأدلة التي تتراكم حول ذلك ".

كان الفريق التابع لتلسكوب فيرمي حذراً طوال الوقت حول التوصل لنتائج تتعلق بالمادة المظلمة اعتماداً على بياناتهم، ولكن خلال الندوة العالمية التي عقدت في شهر تشرين الأول الماضي، أعلن الفريق أن تفسير هذه الانبعاثات اعتماداً على نموذج المادة المظلمة هو الأكثر ملائمة لها، من بين النماذج الفلكية الأخرى التي قد تفسر نشوئها أيضاً. على الرغم من هذا التفاؤل، تعتقد عالمة الفيزياء الفلكية سيمونا مورغيا أنه ينبغي الحذر وتوخي الدقة بخصوص أي إعلان عن المادة المظلمة، خصوصاً أننا لا نتملك المعرفة الكافية بكافة التفاصيل المتعلقة بالمنطقة التي تصدر منها الانبعاثات، وما هي "الخلفية" التي قد تساهم بتسجيل زيادة كهذه في كمية أشعة غاما.

قد يكون تفسير انبعاثات أشعة غاما اعتماداً على نموذج المادة المظلمة أكثر قبولاً فيما لو وجد علماء الفلك أدلة مشابهة لحوادث فناء جسيمات WIMP ضمن مجراتٍ أخرى، وتقول ترايسي ستايلر، عالمة الفيزياء الفلكية في معهد ماساتشوستس للتقانة MIT :" الادعاءات الاستثنائية تتطلب أدلةً استثنائية، وأنا أعتقد أن الادعاء والتصريح المقنع يتطلب إشارة مشابهة من مكانٍ آخر في الكون، أو الحصول على نفس الإشارة من تجربةٍ قد لا تكون فلكية بالضرورة ". مثل هذه التجارب الغير فلكية تتضمن ما يعرف بـ " تجارب الكشف المباشر " والتي تحصل على سطح الأرض، والتي تهدف لالتقاط أحد جسيمات WIMP ضمن أحد الحوادث النادرة جداً، عندما تصطدم مع أحد ذرات المادة العادية. مع الأسف، لم يتمكن أحد من التقاط أو تسجيل مثل هكذا حادثة، وعليه فإنه لا يوجد دليل من تجارب تحدث على سطح الأرض حول وجود المادة المظلمة.

بالنسبة للتجارب المدارية الأخرى، مثل مطياف ألفا المغناطيسي AMS في محطة الفضاء الدولية، والذي يقوم بالكشف عن الأشعة الكونية، قد فشل حتى الآن بالحصول على أي إثبات تجريبي وملموس للمادة المظلمة. في الواقع، فإن النتائج التي تم الحصول عليها من عمل مطياف ألفا المغناطيسي تبدو على تناقضٍ مع التفسيرات الأساسية التي تربط المادة المظلمة مع مشاهدات تليسكوب فيرمي. ويقول عالم الفيزياء الفلكية كريستوف وينغر من جامعة آمستردام :" سيوافق معظم الأشخاص على فكرة أنه يوجد شيء غير متوقع يحدث في مركز المجرة، وسيكون أمراً مثير للغاية إن تبين أنها عبارة عن إشارة خاصة بفناء المادة المظلمة. ولكن في البداية يجب علينا أن نقوم بتأكيد هذا التفسير عبر الحصول على أدلةٍ من مشاهداتٍ مستقلة أخرى. ما يزال أمامنا عملٌ كبير لإنجازه ".

المصدر: هنا

الصورة لبقايا السوبرنوفا N 63A ملتقطة بواسطة تلسكوب هابل

حقوق الصورة: NASA/ESA/HEIC and The Hubble Heritage Team (STScI/AURA)