البيولوجيا والتطوّر > التطور

هل تطوَّر عدوُّنا اللدود كي يدافع عنَّا!؟

في بحثٍ جديد قام به فريقٌ من العلماء ونُشِر في 14 تمّوز 2014، تمّ اقتراح نموذجٍ جديدٍ وفريدٍ من نوعه حول أصول السرطان والخلفيّة التطوريّة له، وتمّ اقتراح الفوائد العلاجيّة المترتّبة على هذا النموذج.

بدايةً من الجدير بالذكر أنّ هذا البحث تمّ إجراؤه من قِبل مجموعة غير اعتيادية من العلماء تتألف من بول ديفيس Paul Davies عالم الكونيات ، وتشارلي لاينويفيرCharley Lineweaver وهو خبير بعلم الأحياء الفلكي ، بالإضافة الى مارك فنسنت Mark Vincent اختصاصي أورام.

قبل عدّة سنوات، كان بول ديفيس مدعوّاً للمساهمة في تأسيس معهدٍ جديد تتقاطع فيه جهود العلماء الفيزيائيين وعلماء الأورام السرطانيّة لإيجاد طرقٍ بديلة للتغلّب على السرطان. وقد يتساءل البعض : ما علاقة الفيزياء بالسرطان؟ ولكنّ هذا النوع من التفكير خارج الصندوق هو بالضبط ما يهدف إليه المعهد لايجاد نتائج مذهلة.

بالمشاركة مع تشارلي ومارك، قام بول بتقديم ما يسمى النموذج الرجعي atavistic model، والذي يشير إلى أنّ السرطان في الحقيقة ما هو إلا إعادة تفعيل لسمة وراثية trait مبرمجة قديماً ، حيث كانت هذه السمة ساكنة لملايين السنين!

حيث يقترح البحث الفرضيّة التالية: بما أنّ السرطان يظهر لدى العديد من الحيوانات والنباتات، فضلاً عن الإنسان. فلا بد إذاً أنّ السرطان قد تطوّر عبر مئات الملايين من السنين عندما كنا جميعاً نتشارك نفس السلف (كائن وحيد الخلية). في ذلك الوقت، كانت الخلايا تستفيد من النمو غير المحدود والتكاثر بدون سيطرة، تماماً كما يحدث في حالة السرطان(نمو غير مُسيطَر عليه). وعندما تطوّرت الكائنات متعدّدة الخلايا، أصبح التكاثر يعتمد على البويضات والحيوانات المنوية ولذلك لم تعد الخلايا الجسدية بحاجة لهذا النمو غير المحدود.

ذكرنا أن الخلايا كانت تستفيد من النمو غير المحدود، فما هي الاستفادة ؟ وماالذي يدعوها لهذا الأمر؟

عندما تتعرّض الخلايا إلى مخاطر بيئية مثل الإشعاعات أو تغيّر ما في نمط الحياة فإن الخلايا تعود إلى "الوضع الآمن المبرمج مسبقاً"، وعند قيامها بذلك فإن الخلايا فعلياً تتخلّى عن وظائفها العليا وتعود الى وظيفتها البدائية في التكاثر والنمو من أجل البقاء!، يقول ديفيس معلّقاً على ذلك " يمثّل السرطان وضعية الأمان الفاشلة، بمجرد أن يتمّ تشغيل هذا المسار، فإن الخلايا تنفّذ برنامجها بلا رحمة".

وبما أن هذا قد أوضح لنا أصل السرطان وتطوّره، فهل سيكون لها تطبيقات طبية تهدف لإيجاد طرق أخرى فعّالة للقضاء عليه؟!

إذا كانت هذه الفرضية صحيحة، فذلك يعني أنّ السرطان قد تطوّر في وقتٍ كانت فيه بيئة الأرض أكثر حمضيّة وتحتوي على كميّة أقل من الأوكسجين. وبالتالي فإنّ علاج مرضى السرطان يصبح ممكناً عن طريق رفع مستويات الأوكسجين وخفض كميّة السكر في غذائهم لتقليل درجة الحموضة، مما يؤدّي الى إرهاق الخلايا السرطانية وإجبار الاورام على التقلّص.

لكنّ هذا النوع من العلاج قد تمّ طرحه مسبقاً وهو ما يعزّز من صحّة الفرضية، ففي دراسات سابقة درس العلماء تأثير مستوى الأوكسجين على الخلايا السرطانية، حيث أظهرت هذه الدراسات أنّ مستويات الأوكسجين المرتفعة قليلاً يمكن أن تحفّز موت الخلايا السرطانية في اللوكيميا دون التأثير على الخلايا الطبيعية. إذ أنّ تزويد المرضى بالأوكسجين لساعة أو ساعتين في اليوم يمكن أن يساعد على شفائهم دون أي أثار جانبية بالمشاركة مع العلاجات التقليدية.

هناك استنتاج آخر سيمكننّا أيضاً من معالجة السرطان ولكن هذه المرّة بآلية مناعيّة، إذ وفقاً للنموذج الرجعي فإنّ الخلايا السرطانية ينبغي أن تكون أكثر عرضة للقتل من قِبَل الكائنات المعدية كالفيروسات والبكتيريا باعتبارها تفقد وظائفها العليا حين تتحول الى "الوضع الآمن المبرمج مسبقاً" وتقلّ دفاعاتها. لذا أكّد ديفيس وزملاؤه على أهميّة العلاجات المناعية والتي تعمل على تعزيز الجهاز المناعي للمرضى بشكل صنعي للمساعدة على شفائهم من خلال حقن فيروسات أو جراثيم معيّنة، وهي فكرة قد تم التطرّق لها من قبل أيضاً، حيث تمّ استخدامها بنجاح لعلاج سرطان الخلايا الميلانينية، ويجري اختبارها على أنواع السرطان الأخرى.

نأتي الآن إلى ذكر الانتقادات التي وجّهها العلماء لهذه الفرضيّة وكيف سيردّ عليها الفريق؟

قال ديفيد غورسكي خبير الأورام أنّ التوقّعات المبنيّة على النموذج الرجعي ليست أكثر ممّا توصّل إليه العلماء بطرق أخرى، هذا ما دفع الفريق لإجراء اختبارات مباشرة هدفها البحث عن أعمار الجينات المسؤولة عن السرطان، إذاً فالإثبات يعتمد فقط على كشف أعمار الجينات؟ لماذا؟

إنّ النموذج الرجعي يفترض بأنّ الخلايا السرطانية تتخلّى عن وظائفها الجديدة وتعود لممارسة وظائفها البدائية في النمو غير المحدود من أجل البقاء، بالتالي من المفترض أنّه كلما تقدَّم السرطان واستمر في النمو، كلّما تراجعت وظائف الجينات المتطوّرة حديثاً و تفعّلت الجينات القديمة.

لذا يقوم ديفيس وزملاؤه حالياً بمراجعة البيانات من "أطلس جينوم السرطان" الذي يوضّح الجينات المسؤولة عن السرطان، ويوضح أياًّ من هذه الجينات مشتركة بيننا وبين أنواع الكائنات الأخرى. حيث أنّ البيانات المحدّثة تمكّن العلماء من تتبّع أعمار هذه الجينات، وبالتالي فإن أيّ علاقة بين عمر الجينات والسرطان سوف تؤكد النموذج "الرجعي". حيث يقول ديفيس أنّ الجمع بين هذه البيانات ومقارنتها لم يتم من قبل لكنّه أمرٌ سهل وممكن وغير مكلف.

إنّ الملفت للنظر في هذه النظرية أكثر من النتائج التي توصّلت إليها هو الخروج عن المألوف فيما يتعلّق باختصاصات العاملين عليها، فالدكتور بريندون كوفينتري أخصائي جراحة الأروام وخبير العلاج المناعي وجد قيمةّ كبيرة في دمج عمل الفيزيائيين مع أطبّاء الأورام للبحث عن أصول السرطان وكيفيّة علاجه، وقد علّق على الموضوع قائلاً : "لقد فشلتْ ألمع العقول في علوم البيولوجيا والطب بالإضافة لصرف كميّات كبيرة من الأموال في إيجاد تأثير كبير وحقيقي في الحرب على السرطان، لذلك ربّما قد حان الوقت لوضع نموذج جديد، فعالِم الكونيات ليس بعيداً جداً عن السرطان، لأن لديه القدرة على رؤية الخلية والتعامل معها وكأنها "كون صغير" وهذا يساعد على الاستكشاف بطرق جديدة ومبتكرة".

ما رأيكم أيها الأصدقاء، هل تجدون بالتفكير (خارج الصندوق) هذا، طريقة ستكون ناجحة فعلاً في القضاء على ألدِّ أعدائنا؟

المصادر:

هنا

هنا

مصدر الصورة:

هنا