الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

تحليل أساطير التكوين المصرية

إن الأساطير المصرية كما رأينا في المقال السابق تعج بعدد كبير من الآلهة التي تلعب كل منها دوراً في ديمومة المنظومة الكونية، لذا سنتابع الآن دراسة الأسطورة المصرية "الهليوبوليسية" بتفاصيلها لنرى كيف فسر المصريون جميع الظواهر الكونية تبعاً لقوتين متضادتين ومتحدتين في الوقت نفسه.

سنستذكر أولاً التاسوع المقدس الذي يتمثل بالإله "نون" الذي كان المحيط اللامحدود حيث أنجب إله الشمس "رع" والذي أنجب دونما شريك الإله "شو" الهواء، و"نفتوت " الرطوبة، والذين بدورهما أنجبا "جيب" الأرض، و"نوت " السماء، الذين أعلنا اتحادهما الزوجي معارضين مشيئة "رع" الذي غضب جداً فأرسل لهما "شو" ليفصلهما بالقوة رافعاً "نوت" إلى الأعلى، حيث أبقاها مستوية على ذراعيها لتكون هي السماء التي حكم عليها "رع" ألّا تنجب أي مولود خلال أي شهر. لكن "تحوث" إله الحكمة والكتابة، أشفق عليها فدعا إله القمر إلى لعبة الداما وربح منه سبعين جزءاً من ضوئه، صنع منها خمسة أيام جديدة لم تكن محسوبة في التقويم المصري، الذي تعد أيامه 360 فقط وهي الأيام الخمسة الكبيسة التي كان المصريون يضيفوها في كل عام على التقويم القديم للملاءمة بين التقويم القمري والشمسي. وهكذا أتيح "لنوت" إنجاب خمس مواليد، دون انتهاك قرار "رع"، وهم "أوزيريس" و"ايزيس"، ثم "سيت" و"نفتيس"، و"حورس الاكبر" ليتكون لدينا التاسوع المقدس المؤلف من (رع، شو، نفتوت، جيب، نوت، اوزيريس، أيزيس، سيت، نفتتيس) فقط.

إذاً إن "رع "هو من خلق الكون والآلهة وكل ما يتحرك في الماء وعلى الأرض، وخلق الإنسان من عينيه وجلس ليحكم الأرض، بعد أن حمل عدة أسماء لم تكن معروفة لأحد. كما كان يملك في قلبه اسمه الإلهي السري الذي يعطيه قوته الإلهية. لكن "ايزيس" التي عرفت بأنها ساحرة رغبت في معرفة الاسم الإلهي لتكون لها قوة مساوية لـ"رع" لذا فقد سرقت بعضاً من لعاب "رع" الإلهي أثناء حديثه، وصنعت منه أفعى إلهية لسعت الإله "رع" وأدخلت السم إلى قلبه الذي أهلكه وآلمه، فجمع الآلهة وطلب منهم المساعدة فعرضت أيزيس أن تساعده بسحرها مقابل أن يسلمها الاسم الإلهي قبل أن يهلك بالسم، فقبل وزال ألمه لكنه فقد هيبته كإله أعلى، فسلم الحكم لـ"شو" الذي سلمه لاحقا لـ"جيب" ومن ثم لـ "اوزيريس".

وقد حكم "أوزيريس" مصر بالعدل لكن أخاه سيت الذي يمثل الشر المعارض أبدا للخير، دبر مؤامرة ليخنق "اوزيريس" في صندوق ويرميه في نهر النيل. لكن "ايزيس" زوجته وأخته، بكته وحزنت جداً لذا فقد بحثت عن التابوت وأودعته في مكان بعيد، إلا أن "سيت" عثر عليه فقطع الجثة إلى 14 قطعة وبعثرها في الدلتا، لكن ايزيس عادت وعثرت عليها وغسلتها بدموعها. وفي حالة الموت هذه حقق "اوزيريس" اتصالا زوجياً مع "أيزيس" فانجبا ابنهما "حورس الأصغر"، الذي حكم مصر لاحقاً.

إن "حورس" كان يمثل القوى الموجبة في الطبيعة، المعارضة للقوى السالبة المتمثلة في "سيت" وهنا يظهر جلياً صراع الثنائيات الكونية فسيت هو الذي حرف مسار الشمس باتجاه الجنوب عقب الانقلاب الصيفي. وهو من يسرق نور القرص فتقصر ساعات النهار لحساب ساعات الليل، وهو من يسرق من نور القمر عقب اكتماله بدراً ليعود الإله "نوت" لإشعاله مجدداً. لكن "حورس" كان دائماً يتصدى لـ"سيت" متسلحاً بالحر اللاهب وبسهام الضوء النافذة، ليواجه أسلحة الظلام والمطر والضباب التي كانت بحوذة "سيت" دائماً. ولقد نجح "حورس مرة في صرع "سيت" وبعثرت أشلاؤه لكن أبناء حورس قاموا بجمع أعضائه ليبدأ صراع جديد بينهما.

وهكذا نجد أن التناقض بين القوتين الكونيتين لم يصل إلى حد إلغاء واحد أو سيادة الآخر، لأنه لا غنى عن صراعهما وعن تعاونهما من اجل صيرورة العمليات الكونية. لذلك نجد ان الآلهة كانت تتدخل دائماً بين الصراعات الثنائية المتعارضة بين الآلهة، كلما أوشك أحدهما على أن يجهز على الآخر لكي لا يختل نظام الكون وهذا بدا واضحاً حين أنقذ أولاد حورس "سيت" بعد أن قتله والدهم.

ولكن إضافة إلى ذلك وجدنا شيئاً من الصراع بين السلطة الأنثوية والذكورية للسيطرة على الكون وهذا بدا واضحاً من رغبة "ايزيس" في سرقة الاسم الإلهي الذي مثل الوجود الإلهي الواضح.

ولا يمكننا تجاهل دور السلطة الذكورية في هذه الأسطورة في السيطرة، والذي بدا واضحاً في موضوع الخلافة فإن "رع" سلم الحكم من بعد لابنه "شو" وليس لبنته "نفتوت" كما أن "شو" سلمه لـ "جيب " وليس لـ"نوت" والذي بدوره سلمه لابنه "أوزيريس".

لكن حتى هؤلاء كانوا يتصارعون على الحكم وهذا بدا واضحاً في الصراع الذي دار بين "حورس" و"سيت"، ولكن وكما ذكرنا سابقاً، إن هذه النزعات كلها كان لابد منها من أجل صيرورة الكون.

إذا وبعد هذه التحليلات، نجد أن ما قاله عالم الرياضيات والفيلسوف الرمزي "شو لليردي ليوبيش" كان صحيحاً حين قال: "إن القراءة التقليدية للنصوص الميثولوجية من موقع معلل تاريخياً، من غير معنى رمزي (باطني -مكنون) تعد قراءة لا آفاق لها".

المصادر:

أسرار الألهة والديانات، أ.س ميغوليفسكي

مدخل الى نصوص الشرق القديم، فراس السواح

الرحمن والشيطان، فراس السواح

أسرار الفيزياء الفلكية والميثولوجيا القديمة، س.بريوشينكين

Egyptian Meth and Legend، Donald Mackenzie

مصدر الصورة: هنا