الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

الفلسفة والفيزياء

الفيزيائي "سين كارول" لديه بعض الكلمات الرّصينة ليقولها للفيزيائيين الذين يقللون من شأن الفلسفة، حيث أن إحدى المنازعات التي حصلت بين عالم الفيزياء والفلسفة أتت من طرف الفيزيائي "نيل ديغراس تايسون" الذي استخفّ بوضوح بالفلسفة قائلاً أنه لا يمكن أن تكون سوى مضيعة للوقت ولا توفر في الواقع أي إجابات محددة عن الأسئلة العلمية.

و لكن تايسون لم يكن سوى واحداً ضمن سلسلة متصلة من الانتقادات تلك، فعلى سبيل المثال في العام 2012 انتقد الفيلسوف "ديفيد البرت " الفيزيائي "لورنس كراوس" منطلقاً من إجابة كراوس في كتابه الأخير حول أن الفيزياء قد استقرّت وأعطت إجابات مقنعة على السؤال من وجودها، بينما ردّ كراوس على آلبرت بأنه " مغفّل " وبالطبع تلك إجابة لا تساعد في ردم الفجوة بين الحقلين.

كما أن الفيزيائي الشهير "ستيف هوكينغ " كال بعض الكلمات القاسية للفلسفة قائلاً "إن الفلسفة قد ماتت"، وأبعد من ذلك أيضاً نجد ريتشارد فاينمان يزدري الفلسفة ويصفها بالغافلة أو المتبلّدة.

من موقعه قام "كارول" بتحليل الانتقادات الرئيسية الثلاثة للفلسفة من وجهة نظر علماء الفيزياء:

الانتقاد الأول: هو أن الفلاسفة لا يعتمدون على البيانات ولا يجرون التجارب.

الانتقاد الثاني: هو أن الفيزياء التطبيقية لا تعتمد على الفلسفة إطلاقاً في عملها.

الانتقاد الثالث: هو أن الفلاسفة يستندون على الذات بالمطلق دون أي اعتماد على قابلية الملاحظة.

و يقول كارول أن الادعاء الأول هو الغافل أو المتبلّد – مستخدماً تعبير فاينمان نفسه عن الفلسفة – والادعاء الثاني مزعج أما الثالث فهو مبعث إحباط عميق.

وفي الحقيقة هناك مشكلة في فهم لماذا أناس أذكياء من الفيزيائيين على غرار تايسون وهوكينغ قد أهملوا التاريخ الغني من التفاعل بين الفلسفة والفيزياء، بل حتى أنهم يستخدمون الفلسفة بطريقة لاواعية حين يتحدثون بالعلم.

فعلى سبيل المثال: عمً يتحدث فاينمان الكاره للفلسفة بالضبط في أطروحة " سمات القانون الفيزيائي "؟ لقد كان يتحدث عن العلم، فضل العلم، منهجية العلم، مسيرة الكمال من العلم نحو الحقيقة، وبعبارة أخرى كان يتحدث بالضبط عما يسميه معظمنا (فلسفة العلم)، وأيضاً هناك بعض الأمثلة مما يمكن تسميته (تأملات فلسفية) في أطروحة فاينمان (محاضرات في الفيزياء) وحتى تايسون عندما كان يتحدث عن فكرة " الأكوان المتعددة " و" أزمة فيزياء الكم " كان يتحدث بشكل فلسفي.

يقول "كارول" إن جزءاً من المشكلة يأتي من الدلالات، فمعظم الفيزيائيين لا يحاولون دحض فرضياتهم، ولا حتى تطبيق الاستدلالات الإثباتية أو البحث عن نماذج المتغيرات في عملهم اليومي، لكنهم يفعلون ذلك دون وعي منهم طوال الوقت.

و بالمقابل فالفلسفة تمثل الى حد ما نوعاً من "الماوراء" وهو مستوى أعلى في النظر من الطريقة التي ينتهجها العلم، وفي كثير من الأحيان يخطأ فلاسفة العلم في اعتقادهم أن العلم يتناسب مع التعريفات البسيطة، وهذا بالضبط نتيجة لذلك المستوى الفوقي والماورائي للفلسفة.

ولكن ذلك لا يعني أن هذه الأطر غير قابلة للتطبيق بشكل مطلق بالنسبة للعلم، حتى لو بدت أنها حبر على ورق، إنها تشبه إلى حد ما قولنا بأن قوانين نيوتن هي كيانات مستقلة لا صلة لها بالثقوب السوداء أو النظام الفوضوي للكون فقط لأنها تفتقد الصياغات البسيطة في تلك المجالات.

إن مأخذي على كل من الفيزياء والفلسفة هو في غاية البساطة، فالفلسفة تبدأ حيث تنتهي الفيزياء، والفيزياء تبدأ من حيث تنتهي الفلسفة، وهذا ينطبق على جميع العلوم.

وأعتقد أن هناك الكثير من الحلقات في تاريخ العلم تدعم هذا الرأي، فعندما كان العلم لا يزال في مرحلته البدائية أتت معظم طروحات موضوعاته بالمرتبة الأولى من الفلاسفة الإغريق ولاحقاً من آسيا ومن المفكرين العرب والأوروبيين مما يمكن أن نسمّيه " فلاسفة الطبيعة "، حيث انحصر التفكير في قوى الطبيعة الأرضية، وكيف تشكلت النجوم والكواكب، أو فيما إذا كانت الكائنات الحية في حالة تطوّر أم لا، أو فيما إذا كان هناك حياة بعد الموت، كل ذلك كانت تقوم به الفلسفة.

لكن العلم تمكّن من الإجابة عن تلك الأسئلة بعد ذلك بنحو خمسمئة عام، ثم عادت الفلسفة لتتدخل من حيث انتهت أفضل العلوم في تلك الحقبة، ثم تلا ذلك صعود العلم مرة أخرى حين وجد في ذاته القدرة على الإجابة عن هذه الأسئلة الفلسفية.

و أكبر مثال عن ذلك هو أن أسئلة فلسفية عميقة حول ميكانيكا الكم تم التفكير بها من قبل مؤسسي ميكانيكا الكم أمثال " نيلزبور، آينشتاين، هايزنبرغ " وهؤلاء بالإضافة إلى كونهم علماء مرموقين فقد كانوا ايضاً فلاسفة من الطراز الرفيع، حتى أن "هايزنبرغ" كتب كتاباً بعنوان " الفيزياء والفلسفة " ولكن السبب الذي يدفعنا لنعتهم بالفلاسفة هو أنهم أدركوا ان قوانين ميكانيكا الكم قد أجبرتنا على إعادة التفكير بطبيعة الحقيقة بذاتها، ولم تقم بتحدي مفاهيمنا عن كيانات مثل " الألكترون والفوتون " فحسب، بل أيضاً عن مفاهيم مجرّدة كالوعي والموضوعية والإدراك، وقد أدرك بور وهيزنبرغ أنه لا يمكننا الحديث عن هذه الآثار البعيدة للفيزياء دون التحدث بصبغة فلسفية.

وفي الواقع بعض من أهم القضايا الفلسفية التي تمت مناقشتها مثل " التشابك الكمومي " قد تم التحقق من صحتها في وقت لاحق من خلال التجارب العلمية المعقدة، وبالتالي فحججهم الفلسفية ساهمت في إبقاء تلك القضايا الهامّة حيّة.

وحتى في فيزيائيو ما بعد الحرب والكثير منهم من المعادين للفلسفة وخاصة الاتجاه المعروف بـ(أغلق فمك وقم بالحساب) كان هناك فلاسفة بارزون مثل "جون ويلر وديفيد بوم"، وهؤلاء أدركوا مجدداً قيمة الفلسفة ليس كأداة للحساب والقياس إنما ببساطة كدليل للتفكير في القضايا الضبابية في حدود العلم، وبالتالي فعند بدء الحديث فلسفياً حول مشكلة علمية فهذا يعني أنك حقاً على مشارف (قطيعة) أي على مشارف الانتقال لأنموذج علمي جديد.

إذن يمكنك التفكير بالفلسفة كنوع من الاستعداد لاستكشاف أقاصي التفكير العلمي، وتعيد تهيئة نفسها بالعلم من أجل فهم طبيعة الواقع، فبالتالي: تايسون، هوكينغ، كراوس... في الحقيقة وبالنسبة لنا هم فلاسفة بهذا المعنى، وعلينا أن نقدّر ذلك.

المصدر: هنا

مصدر الصورة: هنا

هنا