الفيزياء والفلك > فيزياء

العلماء يسبرون بشكل أعمق الحالة الغريبة للكون عند ولادته

تمكّن العلماء عن طريق جمع البيانات المأخوذة من اثنين من مسرعات الطاقة العالية، من استخلاص قياسات لخاصية استثنائية لأحد المراحل الغريبة في نشأة كوننا تعرف باسم بلازما (كوارك - غلون). النتائج أظهرت سمات جديدة للهذا "السائل المثالي" فائق الحرارة، والذي سيوضح لنا حالة الكون المبكر بعد حدوث الانفجار العظيم عندما كان عمره جزء من مليون من الثانية فقط.

الفريق العلمي المدعو (JET) والذي يتكون من عدة افراد من مراكز بحث مختلفة بقيادة باحثين في مختبر بيركلي، تمكن من الحصول على أدق بيانات حتى اليوم عن أحد الخواص الأساسية لبلازما (كوارك - غلون)، والتي تكشف عن البنية المجهرية لهذا السائل المثالي، ويشرح Wang الفيزيائي في قسم العلوم النووية في مختبر باركلي، بان السائل المثالي هو السائل الذي تكون فيه النسبة مابين اللزوجة والكثافة هي أقل قيمة تسمح بها قوانين ميكانيك الكم. أي أن هذه السوائل تجري دون أن تعاني من أي نوع من الاحتكاك.

- حساء البلازما الساخنة:

لإيجاد ودراسة بلازما (كوارك - غلون) استعمل الباحثون مصادم الايونات الثقيلة النسبوي (RHIC) في مختبر بروكهيفن الوطني في نيويورك ومصادم الهادرونات الكبير (LHC) في سويسرا. بتسريع العلماء لنوى ذرية ثقيلة حتى طاقات عالية ومن ثم صدمها ببعضها البعض، استطاعوا إعادة خلق الظروف الحرارية السائدة في الكون في لحظاته الأولى.

تتألف النوى الذرية من البروتونات والنيوترونات والتي تتألف بدورها من جسيمات عنصرية تدعى الكواركات، تلك الكواركات ترتبط مع بعضها بواسطة جسيمات أخرى تدعى الغلوونات (للمزيد عن الكواركات يمكن مراجعة مقالنا هنا ). وتحت ظروف قاسية كالتصادمات عند درجات حرارة تتجاوز ملايين المرات تلك الموجودة في مركز الشمس، فان الكواركات والغلونات تنفكّ عن بعضها لتصبحان سائلاً مثالياً عديم الاحتكاك وفائق الحرارة، يعرف بإسم بلازما (كوارك - غلوون). الحرارة العالية جدا ستؤدي إلى تلاشي الحدود الفاصلة بين النوى المختلفة، وبالتالي فان كل شيء سيصبح عبارة عن حساء بلازمي ساخن من الكواركات والغلونات. يضيف Wang بان هذا الحساء فائق الحرارة يتم احتواءه في حُجيرة ضمن مسرع الجسيمات لكن المشكلة تكمن في أن مدى حياته قصير وسرعة انخفاض درجة حرارته وتوسعه يجعل من اجراء القياسات تحدياً كبيراً. طور الفيزيائيون التجريبيون أدوات معقدة للتغلب على هذا التحدي، لكن تحويل المشاهدات التجريبية المتعلقة ببلازما (كوارك-غلوون) إلى بيانات محددة مفهومة عددياً كانت لا يزال صعب المنال حتى الآن.

في هذا العمل الجديد، قام Wang وفريقه بإعادة دراسة لظاهرة كان باحثون من مختبر بيركلي قد قاموا سابقا بشرحها نظريا منذ 20 عاما، تلك الظاهرة هي (فقدان الطاقة عند جسيمات عالية الطاقة) داخل بلازما (كوارك - غلون) . يشرح Wang ما سبق، بأنه عندما يتم إنتاج بلازما (كوارك - غلون)، ينتج كذلك في بعض الأحيان جسيمات أخرى نشطة طاقياً للغاية وبطاقة تفوق بآلاف المرات ما هو موجود في بقية المادة، تلك الجسيمات تنتشر خلال البلازما وتتبعثر وتفقد طاقتها خلالها.

وبما أن الباحثين يعرفون طاقة هذه الجسيمات عند تشكلها ويستطيعون قياس طاقتها عند خروجها فسيتمكنون بالتالي من حساب فقدان الطاقة، مما يقدم فكرة عن كثافة البلازما وشدة التفاعلات الحاصلة داخلها مع هذه الجسيمات العالية الطاقة. تلك الطريقة مشابهة لكيفية اختراق الأشعة السينية لجسم الإنسان حيث نتمكن حينها من رؤية ما بداخله، أي أن تدفق طاقة الجسيمات سوف يخترق البلازما فنتمكن حينها من رؤية طبيعة وخصائص البلازما.

أحد العوائق في تحقيق ذلك هو أن بلازما (كوارك - غلوون) بمجرد إنتاجها فإنها تتوسع ككرة نارية، كما أنها تبرد بسرعة لتتحول إلى مادة عادية، لذلك فمن الضروري تطوير نموذج يصف بدقة توسع البلازما، النموذج ينبغي أن يعتمد على فرع من نظرية تدعى ديناميكيا السوائل النسبية، والتي تدرس حركة السوائل الموصوفة بمعادلات النسبية الخاصة.

وعبر السنوات القليلة الماضية تمكن باحثون في الفريق من تطوير نموذج كهذا، والذي يستطيع أن يصف عملية توسع البلازما ومراقبة ظاهرة السائل المثالي فائق الحرارة، مما يسمح بفهم كيفية انتشار الجسيمات عالية الطاقة عبر الكرة النارية من بلازما (كوارك - غلون).

حلل الباحثون بيانات مجموعة من تجارب أجريت في كل من مسرع RHIC، وأخرى في مسرع LHC، حيث إن كل مسرع منهما أنتج بلازما (كوارك - غلون) عند درجات حرارية ابتدائية مختلفة. حدد الفريق معاملاً يميّز شدة التفاعل بين الجسيمات عالية الطاقة والمادة فائقة الحرارة. تحديد قيم المعامل السابق يمكن أن يساعد في تسليط الضوء على سبب كون المادة فائقة الحرارة هي أكثر سائل مثالي في الكون على الإطلاق.

ويقول Peter Jacob الذي يرأس مجموعة التجارب في مختبر باركلي، بأن النتيجة الجديدة قيّمة للغاية، وهي بمثابة نافذة تطلعنا على الطبيعة بالغة الدقة لبلازما (كوارك - غلون). إن المقاربة المتبعة من قبل فريق العمل، المعتمدة على جمع جهود مجموعات عدة من نظريين وباحثين، تُظهر طريقة حصولنا على قياسات دقيقة أخرى لخصائص بلازما (كوارك - غلون) في المستقبل.

الخطوة التالية للفريق ستكون تحليل البيانات المستقبلية من مسرع RHIC من اجل الطاقات المنخفضة، ومسرع LHC من اجل الطاقات العالية، ورؤية الطريقة التي تؤثر بها درجات الحرارة تلك على سلوك البلازما، وخاصةً بالقرب من طور الانتقال من المادة العادية إلى حالة بلازما (كوارك - غلون).

فما رأيكم؟ هل سيؤدي التحليل الأدق للبيانات مستقبلا لأن نفهم الأجزاء الأولى من الثانية في عمر كوننا بشكل أعمق.

المصدر: هنا

حقوق الصورة: Courtesy of the ALICE experiment at CERN