الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

التوحيد والتنزيه والحلول في الفلسفة اليونانية - الفيلسوف إكسنوفان

من المثير أن نرى في الفلسفة اليونانية نزعة مضادة للنزعة الوثنية التعددية التي سادت اليونان آنذاك وبالوقت نفسه تقف ضد الفصل بين الآلهة والوجود، وأيضاً نزعة تميل لتنزيه الآلهة عن التصوير والتجسيم البشري الذي كان شائعاً عند الاغريق القدامى، وبالفعل فقد أفصح الفيلسوف إكسنوفان بوضوح عن تلك النزعة، فمن هو هذا الفيلسوف وما هي آراؤه في الأخلاق والمعرفة واللاهوت؟

أولاً – السيرة الذاتية:

يعدّ إكسنوفان مؤسس المدرسة الإيليّة (نسبة إلى إيليا) في الفلسفة اليونانية، ويعتبر إكسنوفان شاعراً دينياً أكثر منه فيلسوفاً، ولد في أيونيا عام 576 ق.م وظل يسير ويتجوّل في أنحاء اليونان وإيطاليا القديمة ينشد شعره الذي تضمّن آراءً دينيّة وفلسفية وأخلاقية حتى بلغ التسعين من العمر، وكان ناقداً ساخراً شديد اللهجة، ويظهر ذلك في نقده الذي وجهه لآلهة اليونان القدامى كما سنرى في هذا العرض.

ثانياً - آراؤه:

1 – في اللاهوت :

وجّه إكسنوفان نقداً للحكايات الشعبية التي كانت سائدة في بلاد الإغريق والتي توارثوها عن هوميروس وهزيود والتي تتضمن سير الآلهة وحكايا بطولاتهم وأحوالهم، وسخر من هذه الأساطير من منطلقين: المنطلق الأول هو تعدد هذه الآلهة، حيث يرى إكسنوفان أن الإله لا يمكن أن يكون سوى واحد، والمنطلق الثاني هو أن شعراء الإغريق القدامى قد صوّروا الآلهة بما يشبه الإنسان وسيرته الآثمة،و أيضاً جسّموه بما يشبههم.

يقول إكسنوفان: ( إن الناس هم الذين استحدثوا الآلهة وأضافوا إليها عواطفهم وصورتهم وهيئتهم، فالأحباش يقولون عن آلهتهم أنهم سود فطس الأنوف، ويقول أهل تراقية – اليونان الشرقيون – عن آلهتهم أنهم زرق العيون حمر الشعور، ولو استطاعت الثيران والخيل الرّسم لصوّرت الآلهة على شاكلتها، وقد وصفهم هوميروس وهزيود بما هو عند الناس موضع تحقير وملامة – كالسرقة والزنا والخداع المتبادل – إلا أنه لا يوجد سوى إله واحد أرفع الموجودات السماوية والأرضية، ليس مركّباً على هيئتنا ولا مفكراً مثل تفكيرنا ولا متحركاً، ولكنه ثابت كلّه بصر وكلّه فكر وسمع، يحرّك الكل بقوّة عقله بلا عناء)

ولكن هذه النزعة التوحيدية لم تخل من الواحدية والاتحاد والحلول بالعالم، فالإله عنده ليس مفارقاً للعالم بل متحداً معه كما ينقل عنه أرسطو في كتاب ما وراء الطبيعة إذ يقول (إن إكسنوفان نظر إلى مجموع العالم وقال إن الأشياء جميعاً عالم واحد، ودعا هذا العالم الله، ولم يقل عنه شيئاً واضحاً، ولم يبيّن إن كان العالم واحداً من حيث المادة أو الصورة)

فإكسنوفان لم يعتقد أن الإله شيء والعالم شيء آخر مختلف عنه ومفارق له، وأن الإله يقود العالم كما يقود القائد جيشه، إنما اكتفى بقوله أنه لا ينبغي لهذا الإله أن يتحرك ولا أن ينتقل ولا ينقسم ولا ينفعل.

ولكن لنسأل إكسنوفان كيف يمكن لنا أن نعرف هذا الإله؟

2 – المعرفة:

يرى إكسنوفان أن معرفة هذا الإله غير ممكنة البتة، وإنما الممكن فقط هو الاقتراب من هذه المعرفة ، يقول إكسنوفان (لم تر الدنيا ولن تر إلى الأبد رجلاً يستطيع أن يعرف الإله معرفة صحيحة دقيقة، وحتى لو شاءت المصادفة لإنسان أن يقول في الله الحق كاملاً، فهو نفسه لن يعرف أنه يقول الحق)

3 - الأخلاق:

هاجم إكسنوفان القيم الأخلاقية السائدة عند اليونان والتي تعلي من شأن المهارة الرياضية والتفوّق البدني والجمال الجسماني، فالحكمة في نظره أو المعرفة هي القيمة الأسمى التي تفوق في قيمتها قوّة الرجال وقوّة الخيل، ومكان هذه المعرفة هي الفكر الذي يعلو عن الجسم، ويوجّه إكسنوفان نقداً لأخلاق هوميروس الذي لا يتحدث سوى عن الصراع والنزاع والمعارك وينعتها إكسنوفان بأنها أساطير لا يمكن أن تشكّل نموذجاً للسلوك، إنما ينبغي اتباع الأفكار النبيلة كما يقول (فلنبتعد عن المعارك والحديث الفارغ لملء وقت الفراغ، ولنضع نصب أعيننا الإله والاحترام الذي هو جدير به)

4 – آراؤه في الظواهر الطبيعية الحيّة والكونيّة:

بالنسبة للعالم الحي يرى إكسنوفان استناداً إلى القواقع والأسماك التي رآها أثناء تجواله أن الحياة بدأت من البحر وستعود إلى البحر حيث يغمر البحر كل شيء ليعود فينحسر عنه فيبدأ بذلك عالم جديد وهكذا.

أما بالنسبة للشمس فقد خالف معتقدات اليونانيين الذين مجّدوا الشمس وقوّتها حيث قال أن الشمس التي نراها متجددة وليست هي الشمس ذاتها، إنما في مطلع كل فجر تولد شمس جديدة وتذهب مبتعدة في الأفق حيث لا تعود لنراها مرة ثانية.

ثالثاً - خلاصة اتجاه إكسنوفان:

قال إكسنوفان بالتوحيد الإلهي في سابقة من تاريخ الفلسفة اليونانية، وأولى اهتماماً بالغاً لمسألة التنزيه الإلهي عن التجسيم والمشابهة والمقارنة والمماثلة مع البشر، وأكّد على أن المعرفة بهذا الإله غير ممكنة وإنما الممكن فقط هو الاقتراب من هذه المعرفة لتطبيقها في السلوك والأخلاق، وهذه الأخلاق المستمدة من هذا الإله ليست مستندة على القوّة البدنية والجمال الجسماني، بل الكمال الحقيقي والسعي نحوه إنما يتم في الكمال الفكري والمعرفي، وأيضاً مما يثير الانتباههو مخالفة إكسنوفان لآراء اليونانيين في الشمس والذي مثّلت لديهم من حيث قوّتها أنها جسماً إلهياً، مما دفع إكسنوفان للقول أن الشمس ليست بالقوة الكافية في الوجود والديمومة والاستمرارية بحيث تصلح أن تكون إلهاً أو كائناً ذو سمة إلهيّة .

هذه النزعة إلى الوحدة ونفي الكثرة والتعدد ستجد تجسيداً أكبر في فلسفة تلميذه بارمنيدس الذي سنتكلم عنه في الحلقة القادمة.

المراجع:

1 – يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة، 1936. ص35

2 – د. عزت قرني: تاريخ الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون، جامعة الكويت، 1993، ص 51.

3 - أحمد أمين، زكي نجيب محمود: قصة الفلسفة اليونانية، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1935، ص 38

4 - وولتر ستيس: تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1984، ص 45.

5 – د. ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الاولى، 1991، ص 31 .

مصدر الصورة: هنا