التاريخ وعلم الآثار > التاريخ

الإبتكار وأسسه، قرص فايستوس

الانسان هو ابن بيئته الاجتماعية، الثقافية، التقنية والاقتصادية ومهما كان هذا الانسان مبدعاً أو مختلفاً عما حوله فقد يعجز عن الارتقاء بمن حوله ومنحهم فرصة حياة أقضل. اليوم سنناقش كيف أن الكثير من الأفكار الممتازة والسباقة لعصرها قد توءد في مهدها بفعل العوامل المحيطة.

قرص فايستوس

وهو عبارة عن قرص من الصلصال المشوي تم العثور عليه في قصر الملك مينوس على جزيرة كريت عام 1908.اختلف العلماء كثيراً في تأريخ هذا القرص فبعضهم يزعم انه يعود للفترة بين 1850 – 1600 قبل الميلاد بينما يرجع بعضهم تاريخه الى 1400 قبل اميلاد.

للقرص قطر بحدود 15 سم ويوجد عليه من الوجهين رموز مختلفة مصفوفة بشكل حلزوني. يعتبر هذا القرص من أكبر الألغاز في علم الآثار وذلك ليس فقط لجهل العلماء لأي غرض صنع أو ماذا تعني النقوش عليه بل أيضاً لأن هذه الرموز "طبعت" على هذا القرص. فقد استخدم ختم مستقل لكل رمز طبع بواسطته على الصلصال الطري قبل شويه لتقسيته. ان هذا الاكتشاف يضعنا أمام أول محاول طباعة معروفة في التاريخ وقد استخدمت تقريباً نفس المبادئ التي استعملها جوتنبرج في القرن الخامس عشر: فقد استخدمت أختام متحركة كل منها تمثل رمزاً مستقلاً لتترك أثراً على وسط هو الصلصال في حالة هذا القرص بدلاً من الحبر والورق في العصور الوسطى.

هنا قد يتسائل المرء ولماذا احتجنا لكل هذه الفترة حتى نعيد اكتشاف مبادئ الطباعة؟ ولماذا لم تنتشر هذه التقنية ولم نسمع بمكتشفها والذي حتماً كان سابقاً لأوانه بآلاف السنين؟

هنا نعود الى العوامل التي ذكرناها في بداية المقال، فمهما كانت الفكرة أصيلة وجريئة فلا بد من توافر عوامل ترعاها وتوفر لها المناخ الملائم لتستمر. سوف نناقش هذه العوامل في مثالنا هذا عن الطباعة وبإمكاننا فيما بعد تعميمها على كل جوانب الحياة.

1- عوامل تقنية: لم يكن الورق معروفاً في عصر فايستوس وكان السطح الاكثر شهرة للنقش هو الصلصال الى جانب جلد الحيوانات النادر. كان الصلصال ثقيلاُ جداً وأي محاولة للتعامل معه سوف تتطلب جهدا هائلاُ يضاف الى ذلك جهد آخر للتعامل مع الأوزان الكبيرة للمكابس التي نحتاجها لاتمام عملية الطباعة. اما في العصور الوسطى فكان الورق خفيف الوزن معروفاً من زمن وواسع الانتشار ويتم الكتابة عليه بالحبر الرخيص والذي لا يتطلب مكابس كبيرة.

كذلك المعادن كانت في بدايتها وبالتالي صناعة ختم متين يحمل رمزاً قابلا للاستخدام المتكرر كان أمراً صعباً بعكس أيام جوتنبرغ الذي كان يعمل في مجال المعادن.

2- عوامل لغوية: لم تكون الحروف الأبجدية قد اخترعت بعد في عصر فايستوس وكانت الكتابة رمزية أو مقطعية في معظمها مما يتطلب صناعة عدد هائل جداً من الأختام وما يترتب على ذلك من وقت وجهد لتنضيدها كل مرة عند طباعة نص مختلف. بينما كان جوتنبرغ يستخدم الكتابة اللاتينية التي تتميز بعدد محدود من الأحرف التي لها شكلان فقط أحرف كبيرة وأحرف صغيرة.

ربما كان هذا العامل في الحؤول دون اكتشاف الصينين أو العرب للطباعة برغم معرفة كلاهما للورق والحبر وامتلاكهما للتقنيات اللازمة. فالكتابة الصينية كتابة مقطعية لا أبجدية فهي تحتوي آلاف الرموز وبالتالي تحتاج جهداً كبيراً لتنضيد المحارف وصناعتها. كذلك الأمر بالنسبة للغة العربية فالحروف تتصل ببعضها البعض بأشكال متعددة فيختلف شكل الحرف بحسب موقعه في الكلمة فهو مختلف عما يكون عليه في أولها من منتصفها من آخرها مما يفرض المزيد من الجهد عند التنضيد وصناعة المحارف.

3- عوامل ثقافية: لم تكن الكتابة مهمة ومنتشرة جداً في العصور القديمة بعكس العصور الوسطى حيث انتشرت الكتب والمكتبات وأقدم عامة الناس على تعلم القراءة والكتابة بعد أن كانتا حكرا على أبناء الطبقات الملكية والراقية.

4- عوامل اقتصادية: نظراً لانتشار القراءة والكتابة في العصور الوسطى تشجع الكثير من الأغنياء على الاستثمار في هذا المجال آملين من وراء الابتكارات الجديدة تحقيق الربح وجني المال وهذا ما حصل مع جوتنبرغ حيث أنه تلقى دعماً مالياً كبيراً لتحقيق اختراعه بينما نكاد نجزم بأن صانع قرص فايستوس لم تتيسر له كل هذا التسهيلات.

5- عوامل اجتماعية تتمثل في تشجيع الابتكار والاكتشاف وتقبل الاشياء الجديدة. فهناك الكثير من المجتمعات حتى في أيامنا هذه ترفض ثمار العلم الحديث وتصر على البقاء في مكانها بل والعودة الى عصور سالفة.

وهكذا نرى أن الابتكار هو عملية متكاملة يشارك فيها المجتمع بأسره فحتى آينشتاين بنى الكثير من العلاقات الرياضية في نظريته النسيبة الشهيرة بالاعتماد على تحويلات الزمان والمكان التي وضعها لورنتز.

ماهي برأيك معوقات الاكتشاف والاختراع في بلداننا؟

موحى من: أسلحة جراثيم وفولاذ

المصادر وقراءات أخرى:

Guns Germs & Steel: The Fates of Human Societies/ Jared Diamond .- New York: W. W. Norton & Company، 1999

هنا

هنا