الفنون البصرية > فن وتراث

حين يجتمع الفن والطب في جلسة واحدة!

درس الطّبيب نيكولاس تيولب للتّشريح

قُدِّمت سلسلة لوحاتٍ تشريحيّةٍ إلى مجلس إدارة نقابة الجرّاحين في أمستردام، يعود تاريخ أوّلها إلى عام 1603. يدور موضوعها الرّئيسيّ حول درسٍ في علم التّشريح، ويترأّس الطّبيب المحاضِر دورَ البطولة في كلٍ منها.

يلقي أحد الجرّاحين الرّوّاد درسين نظريّين على مسامع أطبّاء أمستردام الجرّاحين كلّ أسبوعٍ. وللحصول على أكبر قدرٍ ممكنٍ من العلم في مجال التّشريح، فكانت تُجرَى عمليّة تشريحٍ عامّةٍ تحت إشراف طبيبٍ مُحاضِرٍ وعلى مرأى النّاس مرّةً واحدةً سنويّاً، في برد الشّتاء، فرائحة الجثّة النّتنة تكاد لا تُطاق في أيّ وقتٍ آخر من السّنة.

لوحةٌ تمثّل درس الطّبيب نيكولاس تيولب للتّشريح - لـ رامبرانت.

بعد أن أصبح الطّبيب نيكولاس تيولب Nicolaes Tulp (1593-1674) قارئاً ومحاضِراً تابعاً لنقابة الجرّاحين، قام بإجراء أوّل عمليّة تشريحٍ له عام 1631 والثّانية في 1632، حيث كانت المناسبة الّتي رسم فيها Rembrandt رامبرانت لوحته الشّهيرة الّتي تضمّ الطّبيب تيولب والجثّة في الوسط، تحيط بهما مجموعةٌ مؤلّفةٌ من سبعة جرّاحين من أعضاء النّقابة، واحدٌ منهم يحمل ورقةً كُتِبت عليها قائمةٌ بأهمّ الموضوعات والملاحظات، بينما ينقسم الآخرون بين مشاهِدٍ للرّسّام رامبرانت ومراقبٍ ليد الطّبيب تيولب الّتي تحمل ملقطاً مشيراً إلى عضلات ساعد الجثّة، ليبيّن لهم بنيتها وكيفيّة عملها وارتباطها مع بعضها، وقد بُسِطت ذراع الجثّة مفتوحةً لهذا الغرض. يبرز رامبرانت هنا فضول المتفرّجين وقربهم من الجثة الهامدة، مركّزاً على الجوانب النّفسيّة، على عكس صور الباروك المماثلة -بما فيهم عمله اللّاحق "درس تشريح الطبيب Deyman" (1656، متحف ريجكس)- فيتجاهل بذلك الاتّفاقيات التّشريحيّة المعتادة.

أمّا الكتاب الكبير في زاوية اللّوحة السّفليّة اليمنى فمن المُرجَّح أن يكون كتاب Fabric of the Human Body (نسيج جسم الإنسان) (1543) لـ Andreas Vesalius.

يظهر أنّ رامبرانت قد صوّر الرّجال في لحظةٍ زمنيّةٍ مُعيَّنةٍ، ولكنّه قد كان في الواقع دقيقاً جدّاً، وقد تأمّل المشهد مُطوَّلاً قبل إنشائها. كان عنوان اللّوحة The Anatomy lesson of Dr Nicolaes Tulp "درس التّشريح للطّبيب نيكولاس تيولب" في جلسةٍ أقامها بتاريخ 31 كانون الثّاني 1632.

أتقن رامبرانت التّركيز على عناصر لوحته من خلال التّحكّم بالإنارة والظلّ والنّور، فكانت الجثّة محطّ اهتمامٍ نظراً لسطوع الضّوء الكثيف عليها. وما تلبث عين المشاهد إلّا أن تنقاد إلى رؤوسٍ مضيئةٍ من الجمهور بتعابير وجوهٍ تعكس درجاتٍ مختلفةً من الاهتمام، إضافةً إلى الإضاءة على وجه ويدي تيولب الّذي كان مرتدياً قبّعةً سوداء ولباساً أسوداً -بخلاف لباس الأطبّاء المتعارف عليه.

تبنّى رامبرانت نهجاً جديداً، خالقاً مزيجاً مُحكم التّصوير والتّكوين في صورةٍ واحدةٍ، فلم تكن مجرَّد لفتاتٍ رمزيّةٍ ونظراتٍ، إنّما حوت حيويّةً وعمقاً يُعجَب به أيّ مشاهدٍ. تُعدّ هذه اللّوحة في الواقع نقطةَ تحوّلٍ في تحسين صورة نقابة الجرّاحين الهولنديّة.

من المذهل ما حقّقه هذا الرّسام الشّابّ ذو السّتّة والعشرين ربيعاً برسمه لتلك اللّوحة، لا سيّما أنّها كانت أوّل لوحةٍ تحمل توقيعه، فاستحقّت أن تكون واحدةً من أعظم لوحات أوائل القرن السّابع عشر، ومن بين اللّوحات الأكثر شهرةً في عصر الباروك الهولنديّ. عملت هذه اللّوحة على تعزيز سمعته وسرّعت من انتقاله من ليدن إلى أمستردام عامَ 1631 بتكليفٍ من نقابة الجرّاحين في أمستردام، فأمدّ تلك المدينة بالشّهرة في مجال التّشريح.

تمّ تعليق اللّوحة في المسرح التّشريحيّ من قاعة أمستردام الجراحيّة من الوقت الّذي رُسِمت فيه حتّى عام 1828، عندما بيعت لصالح معرض Mauritshuis الملكيّ من قِبل الملك وليام الأوّل.

بعد ربع قرنٍ من الزّمن، كُلِّف رامبرانت برسم لوحة درس التّشريح للطّبيب Joan Deyman، خليفة تيولب كرئيس تشريحٍ في أمستردام. عُلِّقت إلى جانب درس تشريح الطّبيب تيولب في مسرح التّشريح في المدينة، ولحقت أضرارٌ شديدةٌ بها في وقتٍ لاحقٍ جرّاء عيارٍ ناريٍّ في عام 1723، وبقي منها فقط الجزء المركزيّ.

لوحةٌ تمثّل درس الطّبيب Joan Deyman للتّشريح - لـ رامبرانت.

المصادر:

هنا

هنا