الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

الرياضيات لغة الكون - الفيلسوف فيثاغوروس

من الصعب التفريق بين ما علّمه فيثاغورس وما أضافه تلامذته لتعاليمه، لأنه كان هناك نزعة في تاريخ الفيثاغورية أن يُعزى كل جديد الى فيثاغورس بذاته. حيث أن فيثاغورس كان شخصية موقرة بين أتباعه، وكان وصف أحداث حياته يميل الى التبجيل، وربما تم تأليف العديد من القصص غير الحقيقية عنه. فعلى سبيل المثال وصف البعض من المؤرخين فيثاغورس بأنه شبيه بإله. لذلك من الصعب عزل المعلومات الدقيقة عن حياة فيثاغورس من جملة المعلومات المتوافرة عنه. وأيضاً هناك عائق لفهم فيثاغورس والحركة التي أولدها، حيث أن فيثاغورس لم يؤسس فقط مدرسة فلسفية بل مجتمع ديني، وكان الأعضاء مطالبين بحفظ تعاليم فيثاغورس المهمة بعيداً عن المبتدئين. هكذا فان وجود تعاليم خاصة بفئة معينة دون أخرى تجعل من الصعب على المؤرخين اعادة تجميع طبيعة الفيثاغورية خصوصاً في المرحلة المبكرة من وجودها لأن تعاليمهم كانت مقسمة لفئات.

فيثاغورس وأتباعه لم يتركوا كتابات عامة يمكن الوصول اليها تشرح بشكل منهجي الأساس العقائدي لمجتمعهم الديني. وسيكون التركيز في هذا المقال على طبيعة الفيثاغورية في زمن ارسطو، لأن المرجع الأفضل لهذه المرحلة من تطور الفلسفة هو أرسطو نفسه بشكل خاص في كتابه "ما وراء الطبيعة".

السيرة الذاتية:

فيثاغورس فيلسوف وعالم رياضيات يوناني ولد في جزيرة "ساموس" في القرن السادس قبل الميلاد. هناك افتراض انه زار الفيلسوف تالس في مدينة "ميليتس" ونصحه بالسفر الى مصر ليتعلم الرياضيات وعلم الفلك. حوالي السنة 535 قبل الميلاد، ذهب فيثاغورس الى مصر لكنه أخذ أسيراً الى بابل من قبل الملك الفارسي "كامبيس" الثاني. بعد ذلك عاد فيثاغورس الى "ساموس" وبعدها ذهب الى المستعمرة اليونانية في "كروتون" جنوب ايطاليا. وأحدث هناك مجتمع ديني ومدرسة فلسفية كان يسمى اتباعها "علماء الرياضيات". وهؤلاء فرضوا على أنفسهم العديد من القيود الخرافية للحصول على القوة مثل عدم تناول الحبوب وعدم ارتداء الخواتم. على سبيل المثال: " أمر فيثاغورس، عند حرق شيء في وعاء، لا يجب ابقاء آثاره حتى في الرماد بل يجب بعثرتها.." وهذا تلميح إلى أنه ليس من الضروري فقط طمس العلامات، بل يجب ايضاً عدم ترك أي اثر لها.

فلسفة فيثاغورس:

1- مبادئ الرياضيات هي مبادئ كل شيء:

يقول أرسطو أن الفيثاغورية تتميز برؤيتها أن مبادئ الرياضيات هي مبادئ كل شيء. وبمعنى آخر إن البناء الأساسي للوجود هو الرياضيات. وكل شيء يمكن أن يفسر بتعبير رياضي، وقوانين الرياضيات هي التي تجعل الاشياء كما هي وتعطي كل شيء خصوصيته، وعلى الرغم أن هذه القوانين غير مادية إلّا أنها أكثر حقيقة من المادة المحسوسة، لأنه من دونها الأشياء لن تكون كما هي عليه، فالحقيقة الأساسية للأشياء تكمن في أن تكون منطقية.

أضاف أرسطو أن الفيثاغورية أكدت أن الأرقام هي عناصر كل الأشياء بقدر ما أن الأرقام هي أساس الرياضيات، أي بعبارة أخرى بما أن الرياضيات غير ممكنة من دون الأرقام، والرياضيات هي التي تفسّر حقيقة الأشياء فإن كل شيء يجب أن يكون أرقاماً.

يشرح أرسطو أنه من المذهل كيف اكتشف الفيثاغوريون أن السلالم الموسيقية يمكن أن تعبَّر كنسب (باستخدام الأرقام)، وسعوا أن يعزوا الأرقام الى كل شيء، فقد ذهبوا الى أن السماء كلها هي سلم موسيقي ورقم! هذا الجزء من الفيثاغورية حيّر العلماء، ولكن يمكن تلخيصه بفكرة التناغم الموجودة في حركة الكون بالنسبة لبعضها البعض، كنسبة محيط الدائرة الى قطرها، وأيضا نسبة قدرة الجذب بالجسم الى كتلته،و غيرها من النسب المتناغمة في الطبيعة والتي يعبّر عنها بلغة رياضية، وأشهر هذه النسب في الرياضيات هي النسبة المشهورة في المثلث القائم الزاوية والتي تنسب الى فيثاغورس نفسه.

بالنسبة للفيثاغوريين، فالرقم عشرة (10) رقم مقدس، لأنه ناتج عن جمع الاعداد الأربعة الأولى وهي الأعداد التي تستخدم للتعبير عن النسب في الفواصل الأساسية في الموسيقى اليونانية القديمة (1:2، 3:2، 4:3). يقول أرسطو أنه بالنسبة للفيثاغوريين، هذا الرقم ممتاز ويشتمل كل طبيعة الارقام، وجميع الارقام الأخرى يمكن اختزالها بطريقة ما الى الأعداد الأربع الأولى، لذلك حاول الفيثاغوريون إيجاد الرقم عشرة ممثَّلاً في الكون، حتى لو لجأوا إلى تزوير البيانات التجريبية، يشرح أرسطو ذلك بقوله " قالوا أن الأجسام التي تتحرك عبر السماوات هي عشرة، لكن الأجسام المشاهدة هي فقط تسعة، فمن أجل التوافق اخترعوا العاشر وسموه "مضاد الأرض". ومن الجدير بالذكر هنا أنه في زمن اليونانيين كان يعتقد بوجود تسع كرات هي أجسام سماوية ولكن من أجل الحصول على الكمال الكوني، اخترع الفيثاغوريون الجسم السماوي العاشر "مضاد الأرض" الذي لا يمكن رؤيته أبدأ من الأرض.

2- الزوجي والفردي وكل شيء كأرقام..:

يقول أرسطو إن الفيثاغوريين قسموا كل الأشياء بالعودة لمنشئها إلى قسمين رئيسين.

عناصر الرقم هي الزوجي والفردي، المحدود وغير المحدود، ذلك لأن الأرقام تأتي من الواحد والواحد يأتي من الزوجي (غير المحدود) والفردي (المحدود) ، وغير المحدود هو منفعل بينما المحدود فاعل. الواحد اذاً يأتي من هذين المبدأين المتعاكسين وهذا ما يفسر لماذا هو فردي وزوجي معاً.

و قد اعتقد الفيثاغوريون أيضاً أن غير المحدود هو الشر والمحدود هو الخير، لذلك الشر مرادف لغير الترتيب والخير مرادف للترتيب.

3 – الأرقام الزوجي والفردي كتعبير عن آلهة الخير والشر:

و قد عرّف الفيثاغوريون المحدود بالموناد (monad) وغير المحدود بالدياد (dyad). الموناد هو إله الخير أما الدياد فهو إله شرير. وقد اعتبر فيثاغورس أن أحد المبادئ الأولى هو الموناد وهو الله والجيد وهو منشأ الواحد وهو الذكاء بذاته، لكن الدياد غير المعرّف هو إله وشرير، و تتعامل الفيثاغورية مع ثنائية أبدية لهذين المبدأين الإلهيين.

4 – الأرقام تعطي للموجودات الماديّة أشكالها:

من الغير محدود (الزوجي) والمحدود (الفردي) يأتي الواحد، وعليه يكون الواحد فردي وزوجي معاً، فالواحد هو الوحدة الأساسية التي تتألف منها كل الأعداد. ووفقاً لتعاليم فيثاغورس، فالرقم هو المبدأ لكل من مادة الشيء المصنوع منها وخواصه الشكلية الدائمة أو المتعاقبة. لذلك يبدو أن الفيثاغوريين تخيّلوا الأرقام ليس فقط كوحدات فيزيائية ماديّة، بل أيضاً حقائق واضحة أو مبادئ شكلية. فالوحدات هي النقاط في الأشكال الهندسية التي تحدد الشكل. مثلاً، من عنصرين ينشأ خط، من ثلاثة ينشأ المثلث، من أربعة ينشأ رباعي الوجوه. فالفيثاغوريون يختلفون عن أفلاطون هنا لأنه بالنسبة لأفلاطون الأرقام لا توجد بصرف النظر عن الأشياء المحسوسة، بينما عندهم فالرقم هو مبدأ المادة لأن الأشياء تتألف من وحدات ممددة، التي هي العناصر الأساسية للأرقام.

هذه الوحدات الممددة أو النقاط هي على أيضاً الأجزاء المؤلفة لكل الأشكال الهندسية التي تعطي الترتيب والهوية الشكلية لكل الأشياء. (لكن هذا لا يفسر كيف أن الأشياء اللامادية كالافكار المختصرة يمكن أن تكون أرقاماً).

5 - كيف تنشأ الأجسام الماديّة عن الأرقام؟

من ال monad و dyad تنشأ الأرقام، من الأرقام تنشأ النقاط، من النقاط تنشأ خطوط، من الخطوط تنشأ الأشكال المستوية، من الأشكال المستوية تنشأ الأشكال المجسمة، من الأشكال المجسمة تنشأ الأجسام الملموسة التي هي العناصربأشكالها وحالاتها، وهي أربعة: النار، الماء، الأرض، الهواء تتبدل وتتحول من الواحدة للأخرى وتندمج لتشكل كون حيوي.

5 - الأخلاق الفيثاغورية:

يؤمن الفيثاغوريون أن الانسان يتألف من جسد وروح، الروح لا تموت بل تنتقل من جسد الى آخر بعد موته. وهذه إشارة واضحة لمبدأ التناسخ المعروف في الكثير من الديانات والفلسفات، ويخبرنا الفيلسوف اكسنوفان "Xenophanes" المعاصر لفيثاغورس هذه القصة عنه: " قال أحدهم أن فيثاغورس كان مارّاً عندما كان رجلاً يقوم بضرب كلب فقال له فيثاغورس: توقف، لا تضربه، لأنه روح صديق لي أدركته عندما سمعت صوته".

ليس واضحاً تماماً ما هي الروح بالتحديد، ما عدا أنها رقم. وإن اعتقادهم حول الروح بالإضافة إلى نظرتهم لتناغم الكون، قادهم إلى فكرة أن مهمة الإنسان هي ضمان العيش في راحة مع تناغم الكون.

المصدر: هنا

مصدر الصورة: هنا