الطبيعة والعلوم البيئية > عمارة وأرض

حتى آخر متر مكعب

لا يمكن لأي شخص أن يستحضر دمشق المدينة دون أن يذكر بردى في حديثه, فبردى كقاسيون كالمدينة وكالبشر فيها, جزء لا ينفصل عن سياق دمشق. فمن أين يأتي التصاق هذه الأهمية بالنهر, ومساحة حوضه الصبّاب لا تتجاوز 1500 كيلو متر مربع, ويمتد بطول 71 كيلو متر فقط؟

لقد نشأ بردى مع دمشق, ومنه امتدّت و به توسّعت. فبردى الذي نعرفه بتفرّعاته العديدة لم يكن أبداً على هذه الشاكلة بتوضّعه الطبيعي, لكنّه الإنسان الذي سكن دمشق, هو من مهّد له قنواته المختلفة, منحدرةً من سفح قاسيون حتى بساتين المَزّة وبأحواض نهرية مختلفة الأبعاد, تبدأ في "الهامة" بقناة أو نهر "يزيد", وتزداد لتصل إلى ستة أفرع تعبر خانق الرّبوة بمناسيب مختلفة (بردى- يزيد- المزاوي- الداراني – تورا – القنوات – بانياس), وتدخل المدينة لتصل ساكينها وبيوتهم. يؤرّخ البعض أصول هذه الأفرع للعصر الأموري الكنعاني كما هو حال قناة بانياس, أو الآرامي كقناة تورا. فمنذ البداية, عمل الإنسان السوري في دمشق على تطويع مجرى نهر بردى ليحقق الاستفادة الأعظم من مياهه.

غير أن عبقرية نظام وتوزيع الماء الخاص بالمدينة, عزز من قدرة هذا النهر بإيصال مائه لكل بيت ومدرسة ومبنى حكومي وديني, بالإضافة الى السّبل المنتشرة في الزوايا والأسواق ومداخل الحارات. فما أن يبدأ فرعي بردى ( بانياس- القنوات) بالمرور من المدينة حتى يتغلغلا فيها عبر شبكة من الأقنية تصل مياهها إلى كل بيت. وكانت هذه المياه تجري عبر (القساطل) حتى تصل إلى ما يسمى (الطالع) والذي يمكن تشبيهه بموزّع حصص المياة للبيوت داخل الحارة, حيث وجدت الطوالع في مداخل الحارات وعلى مفترقات الأزقة. الطالع هو حوض بازلتي مرتفع, تتدفق فيه المياة الرئيسية من حفرة بمنتصفه وتعود لتتوزع بحفر أخرى أصغر وبأقطار مختلفة ليأخذ كل بيت حصته. يشرف على الطالع موظف حكومي يدعى (الفرضي), ومهتمه صيانة الطوالع وضمان وصول حصص السكان المائية. تقاس حصص المياه على الأحياء حسب القراريط، والقيراط هو وحدة قياس تعادل 1 من 24 من مياه القسطل، أي أن مجموع المياه الكلي الموجودة في الطالع هو 24 قيراط، وحسب ما هو مذكور في كل صك ملكية، يحدد حق المياه لكل مبنى بنسبة معينة من المياه. ولا ينتهي بردى هنا, بل يتم جمع ما فاض من مائه بقنواته الثانوية والرئيسية في موقع الأحد عشرية شرق المدينة القديمة, ليتابع مسيره باتجاه قرى الغوطة الشرقية موزّعاً حصصه مرّة أخرى على المزارع والبساتين. بقيت دمشق تعتمد على بردى ونظام الطوالع حتى عام 1932 م تقريباً حيث بُدئ بتوزيع مياه الفيجة في شبكات جديدة.

لقد استطاع هذا النظام أن يوصل نهر بردى إلى كلّ منزل, ولم يكن ذلك أمراً هيناً, فدمشق باحتفالها بالحياة على سطحها, كانت تحتفل أيضا ببردى في باطنها و تعجّ بأقنيته معتمدة على انسياب الماء نفسه, وفي ذلك يؤرّخ ابن عساكر عن قنوات دمشق (إن قنوات دمشق بلغت مئة وثلاثين داخلها وعشرين قناة في ظاهرها).

من هنا تأتي أهمية بردى الذي تعرفه المدينة, فهو النهر الذي لا يخرج من المدينة حتى يسلّم أمانته لكل فرد فيها, وهو النهر الذي ربّاه الدمشقيون منذ وجودهم (عالغالي).

تحدّثت وأتحدّث وسأتحدّث عن بردى بفعل المضارع, أسوةً بالشاعر الراحل سليمان العيسى الذي ظلّ يجد فيه "رمز دمشق الخالد"،رافضاً الشفقة أو الحزن عليه قائلا ذات يوم في أحد لقاءاته: "بردى هو الجندي المجهول وسيبقى بأيّ حال له، فكل حصاة فيه تقاتل لأجل إحياء البلدان الأخرى".

مجموعة من المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا