الموسيقا > موسيقا

رحيل وديع الصافي

فريق الباحثون السوريون يتقدم بأحر التعازي لأسرة ومحبي الفنان الأسطورة وديع الصافي

توفي منذ قليل الفنان الكبير وديع الصافي في مستشفى "بلفو" في المنصورية- لبنان عن عمر 92 عاماً

وديع فرنسيس الشهير ب وديع الصافي مطرب لبناني حصل على الجنسية المصرية ، والبرازيلية، يعتبر من عمالقه الطرب في لبنان والعالم العربي ، ولد في 24 تموز عام 1921 في قرية نيحا الشوف وهو الابن الثاني في ترتيب العائلة المكونة من ثماني أولاد كان والده بشارة يوسف جبرائيل فرنسيس، رقيب في الدرك اللبناني

لم يكن وديع الصافي قد اكمل بعد السنتين من عمره عندما اذهل خاله نمر العجيل بقوة صوته ونقاوته. اذ كان يطيب له ان يمسك بيده ويجول واياه في احياء بلدة نيحا في البقاع حيث مسقط رأسه.

وعند سماع صياح الديك كان الطفل يتوقف لبرهة ويصيح بدوره مقلداً الديك ببراعة فيربت الخال على كتفه اعجاباً وهو يتمتم «مش معقول ولد بها العمر بيملك هالصوت».

وشاءت الصدف ان يردد العبارة نفسها الراحل محمد عبد الوهاب عندما سمعه يغني اوائل الخمسينات «ولو» المأخوذة من احد افلامه السينمائية وكان وديع يومها في ريعان الشباب. فشكلت هذه الاغنية علامة فارقة في مشواره الفني وتربع من خلالها على عرش الغناء العربي، لقب بصاحب الحنجرة الذهبية وقيل عنه في مصر مبتكر «المدرسة الصافية» (نسبة الى وديع الصافي) في الاغنية الشرقية. انهالت العروض على وديع لاحياء الحفلات وتمثيل الافلام وانقلبت حياته رأساً على عقب فصار ملك الغناء من دون منازع.

عاش وديع الصافي المولود عام 1921 طفولة صعبة غير مستقرة ومتواضعة يغلب عليها طابع الفقر والحرمان، في عام 1930، نزحت عائلته إلى بيروت ودخل وديع الصافي مدرسة دير المخلص الكاثوليكية، فكان الماروني الوحيد في جوقتها والمنشد الأوّل فيها. وبعدها بثلاث سنوات، إضطر للتوقّف عن الدراسة، لأن جو الموسيقى هو الذي كان يطغى على حياته من جهة، ولكي يساعد والده من جهة أخرى في إعالة العائلة

عرف الفقر والعوز فهو الاخ الاصغر لتوفيق والاكبر لكل من ليندا وماري وجاندارك وتريز وايليا وناديا المعروفة فنياً باسم هناء الصافي، واشتهرت باغنية «يا بيتي يا بوايتاتي». تنقل وديع في اكثر منطقة لبنانية بسبب طبيعة مهنة الاب، الذي كان خيالاً في قوى الأمن الداخلي، ولاحقاً مد يد العون لوالده وهو لم ينه بعد الثالثة عشرة من عمره عندما عمل مساعداً له في المؤسسة الأمنية نفسها.

ورغم ممانعة الام والاب خوض ابنهما المعترك الفني، فإن وديع وجد ملاذه عند خاله نمر الذي كان يدربه على عزف العود بعد عودته من «النوبطشية». ثمرة هذا التعاطف تمثل بآلة عود اهداها له الخال وما زال وديع يحتفظ بها حتى الآن.

العتابا... الغزيّل... ابو الزلف وغيرها من اغاني الفولكلور اللبناني، كان ينشدها وديع بجدارة فلفت انتباه زملائه واساتذته في مدرسة الضيعة (نيحا) تحت السنديانة وفي الهواء الطلق وبعدها في مدرسة الآباء المخلصين في بلدة جون.

اول اجر قيّم تقاضاه في بداية مشواره الفني كان ثماني ليرات ذهبية من الست نظيرة جنبلاط والدة الراحل كمال جنبلاط، وذلك لقاء غنائه لها وهي طريحة الفراش وكان يومها لا يتجاوز الحادية عشرة. عام 1938 انتقلت عائلة فرنسيس الى بيروت وهناك لعبت الصدفة دورها. عندما دخل عليه شقيقه توفيق يحمل قصاصة ورق عن اعلان لمسابقة غنائية تنظمها اذاعة لبنان الرسمية والمعروفة حينذاك باذاعة الشرق الادنى.

كانت انطلاقته الفنية سنة 1938، حين فاز بالمرتبة الأولى لحنًا وغناء وعزفًا، من بين أربعين متباريًا، في مباراة للإذاعة اللبنانية، ايام الانتداب الفرنسي، في أغنية "يا مرسل النغم الحنون" للشاعر المجهول آنذاك (الأب نعمة اللّه حبيقة). وكانت اللجنة الفاحصة مؤلّفة من ميشال خياط، سليم الحلو، ألبير ديب ومحيي الدين سلام، الذين اتفقوا على اختيار اسم "وديع الصافي" كاسم فني له، نظرًا لصفاء صوته. فكانت إذاعة الشرق الأدنى، بمثابة معهد موسيقي تتلّمذ وديع فيه على يد ميشال خياط وسليم الحلو، الذين كان لهما الأثر الكبير في تكوين شخصيّته الفنية. بدأت مسيرته الفنية بشق طريق للأغنية اللبنانية، التي كانت ترتسم ملامحها مع بعض المحاولات الخجولة قبل الصافي، عن طريق إبراز هويتها وتركيزها على مواضيع لبنانية وحياتية ومعيشية. ولعب الشاعر أسعد السبعلي دورًا مهمًّا في تبلّور الأغنية الصافيّة. فكانت البداية مع "طل الصباح وتكتك العصفور" سنة 1940.

لم تتسع بيروت للمطرب الصغير الباحث عن الافضل، فسافر اكثر من مرة بحثاً عن لقمة العيش وكانت بدايته مع احد متعهدي الحفلات من آل كريدي، وذلك اثناء الحرب العالمية الثانية عندما اختاره ليقوم بجولة فنية في دول اميركا اللاتينية المزدهرة حينها بالصناعة والزراعة. استقر في البرازيل ثم عاد الى لبنان ليكتشف ان الاغنية اللبنانية ما زالت في بداياتها لولوج العالم العربي. وعندما عرف بالنجاح الكبير الذي حققته اغنية الراحل فريد الاطراش في تلك الاثناء «يا عوازل فلفلو» قرر ان يغامر باغنية جديدة من نوعها بعنوان «عاللوما» ذاع صيت وديع الصافي بسبب هذه الاغنية التي صارت تردد على كل شفة ولسان واصبحت بمثابة التحية التي يلقيها اللبنانيون على بعضهم بعضا.. وكان اول مطرب عربي يغني الكلمة البسيطة وباللهجة اللبنانية بعدما طعمها بموال «عتابا» الذي اظهر قدراته الفنية.

سنة 1952، تزوج من ملفينا طانيوس فرنسيس، إحدى قريباته، فرزق بدنيا ومرلين وفادي وأنطوان وجورج وميلاد.

في أواخر الخمسينات بدأ العمل المشترك بين العديد من الموسيقيين من أجل نهضة للأغنية اللبنانية انطلاقًا من أصولها الفولكلورية، من خلال مهرجانات بعلبك التي جمعت وديع الصافي، وفيلمون وهبي، والأخوين رحبانيوزكي ناصيف، ووليد غلمية، وعفيف رضوان، وتوفيق الباشا، وسامي الصيداوي، وغيرهم.

اراد وديع الصافي ان يثبت خطواته الفنية اكثر فاكثر، فحاول ذلك جاهداً اوائل الستينات عندما عرض عليه نقولا بدران والد المطربة الكسندرا بدران (باسم نور الهدى) في مصر. هناك تعرف الصافي الى ملحنين وممثلين مصريين ومكث حوالي العام ليعود الى لبنان ويتبناه هذه المرة محمد سلمان زوج المطربة نجاح سلام. شارك وديع مع المطربة المعروفة في اكثر من فيلم سينمائي وبينها «غزل البنات» ومن ثم مع صباح في «موّال» و«نار الشوق» عام 1973.

مع بداية الحرب اللبنانية، غادر وديع لبنان إلى مصر سنة 1976، ومن ثمّ إلى بريطانيا، ليستقرّ سنة 1978 في باريس. وكان سفره اعتراضًا على الحرب الدائرة في لبنان، مدافعًا بصوته عن لبنان الفن والثقافة والحضارة. فكان تجدّد إيمان المغتربين بوطنهم لبنان من خلال صوت الصافي وأغانيه الحاملة لبنان وطبيعته وهمومه. منذ الثمانينات، بدأ الصافي بتأليف الألحان الروحية، نتيجة معاناته من الحرب وويلاتها على الوطن وأبنائه واقتناعًا منه بأن كلّ اعمال الإنسان لا يتوّجها سوى علاقته باللّه.

وغالباً ما همس الى المقربين منه، ان الوحيد الذي يمكن ان يكون خليفته هو ابنه انطوان الا ان «الخليفة العتيد» الذي رافق والده في الحفلات واستوديوهات التسجيل منذ نعومة اظافره قرر البقاء على مسافة من اجواء الغناء.

جذب المطرب الاجيال بصوته، اطرب الكبار والصغار فغنى مئات الاغاني، منها ما افرح القلوب مثل «لرميلك حالي من العالي» و«لبنان يا قطعة سما» و«جايين» ومنها ما حرك الحنين لدى المهاجرين كاغنية «عا الله تعود عا الله».

ويقال ان اغنيتي «ولو» و«ندم» كانتا بمثابة باب جديد تنطلق منه الاغنية العربية فاستوحيت منهما اغان كثيرة بينها «ايظن» من شعر نزار قباني، التي غناها محمد عبد الوهاب وبعده نجاة الصغيرة، وتتمحور حول قصة تحاكي المستمع وتداعب خياله.

ولم يشأ ابن الارز ان يستسلم يوماً للنمط العادي، او يقف مكتوف الايدي متأثراً بزحف السنين التي طالته فأحيا اكثر من مائة مهرجان في بعلبك، صيدا وصور ودير القلعة. وشارك في افتتاح اكثر من ليلة لبنانية.

على ابواب الثمانين لبى الصافي رغبة منتج لبناني شاب يدعى ميشال الفترياديس الذي دعاه لاحياء حفلات غنائية في لبنان وخارجه، جمعية فريق غنائي كوبي وبمقدمهم خوسيه فرنانديز وكذلك المطربة حنين لم يتردد وحصد نجاحاً منقطع النظير اعاد وهج الشهرة الى مشواره الطويل مطعماً بالعالمية. لم يغب يوماً عن برامج المسابقات التلفزيونية الغنائية قلباً وقالباً فوقف يشجع المواهب الجديدة التي رافقته وهو يغني اشهر اغانيه وبينها «عندك بحرية يا ريّس» والمعروفة انها ثمرة تعاون بينه وبين الراحل محمد عبد الوهاب.

عاش وديع الصافي فترة طويلة رحالة، يتنقل من بلاد الى اخرى وابرزها البرازيل وفرنسا، حيث بقي فيها طيلة فترة الحرب اللبنانية. تعرض لاكثر من نكسة صحية منها عام 1979 عندما اصيب بمرض باكتيري في رئتيه ومرة اخرى عام 1990 عندما خضع الى عملية قلب مفتوح. ومنذ حوالي السنتين اضاء اللبنانيون الشموع من اجل وديع الصافي بعد ان اصيب بوعكة صحية ألمت بقلبه المتعب بقي على اثرها فترة في المستشفى.

حمل ثلاث جنسيات المصرية والفرنسية والبرازيلية، الا انه يفتخر باللبنانية ويردد ان الايام علمته بان ما اعز من الولد الا البلد... وهو مستعد للبسمة في اي لحظة ويصفه ابنه انطوان انه «يضحك بالعرض» اي من كل قلبه. من احب الاغاني الى قلبه «الليل يا ليلى»... ووصيته الدائمة لاولاده ان يتسلحوا بالمحبة: «لتكن المحبة زادكم اليومي وانتم تعملون... وانتم تأكلون وانتم تتحدثون وانتم تغنون».

وكان في وقت سابق قد أعلن المطرب اللبناني الكبير أن أمنيته في العام الجديد 2012م ألا يموت مريضًا على سريره، بل يموت وهو واقفًا على قدميه وسط محبيه من جمهوره.

وديع الصافي ستبقى في قلوب جميع من أحبوك وصوتك "الصافي" سيخلدك على مدى الأجيال