الاقتصاد والعلوم الإدارية > اقتصاد

تطوّر المحاسبة

المحاسبة هي لغة قطاع الأعمال، و بالتالي لغة كل ما يتعلق بالمال، فبنفس الطريقة التي تقوم بها الحواس بترجمة المعلومات عن محيطنا إلى لغة يفهمها الدماغ، فإننا بحاجة للمحاسبين كي يترجموا لنا القوائم و المؤشرات المالية المعقدة، و كي يحولوها إلى أرقام و معلومات موجزة يستطيع العامة فهمها، في هذا المقال سوف نبحث في تاريخ المحاسبة و تطورها منذ العصور القديمة إلى يومنا هذا، حيث لا تخلو شركة أو مؤسسة أو أي عمل تجاري صغير من محاسب واحد على الأقل.

مراحل تطور المحاسبة :

مسك الدفاتر :

ظهرت مهنة مسك الدفاتر على الأرجح حين كان المجتمع لا يزال في مرحلة نظام المقايضة و التبادل، أي تقريباً قبل عام 2000 قبل الميلاد. في الفترة التي سبقت ظهور النقود كان عليك أن تقدم سلعة ما للحصول على سلعة أخرى، و ليس إعطاء النقود للحصول على السلع كما هو الحال اليوم. فلو اطلعنا على الدفاتر التي تتعلق بالأمور التجارية في تلك الفترة، لوجدناها تخبرنا عن تفاصيل الصفقات و تواريخها، أو عن شروط تقديم الخدمات.

مثال عن التدوين و مسك الدفاتر في ظل نظام المقايضة :

في يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر أيار، جرت العمليات التالية: قمت بتقديم ثلاث دجاجات اليوم للعامل رامي في مقابل تعهده بتقديم كيس من البذار عندما ينتهي الحصاد في الخريف.

في يوم الأربعاء، الرابع عشر من أيار، جرت العمليات التالية: وافق العامل سامي على صنع خزانة لي مقابل حصوله على كمية معينة من البيض خلال سنة، يبدأ تسليم البيض مباشرة و بشكل يومي بمجرد إتمام صنع الخزانة.

لقد جرى تدوين هذه العمليات في الدفاتر التي تخص العمل التجاري، و في حال حصول نزاع ما تُعد هذه الدفاتر أدلة تثبت من هو صاحب الحق حتى قبل وصول القضية إلى القاضي. على الرغم من أن هذه العملية متعبة، إلا أن هذا النظام الذي يتم بموجبه تدوين كل تفاهم و اتفاق كان مثالياً من حيث ملاءمته للفترة التاريخية التي عاصرها، حيث أن العديد من الصفقات كانت لا تتم بشكل آني، بل كانت هناك فجوة زمنية كبيرة بين الاتفاق و التنفيذ.

تحسين الدفاتر مع تسجيل قيم العمليات :

عندما أصبحت العملات النقدية متاحة و بدأ التجار ببناء ثروات كبيرة، رافق هذه العملية تطور في مهنة مسك الدفاتر، و حتى يومنا هذا فإن الشخص الناجح في قطاع الأعمال قد لا يكون بالضرورة صاحب قدرة على التعامل مع الأرقام، لذلك قام التجار ممن لا يملكون القدر الكافي من القدرة على التعامل مع الأرقام بتوظيف ماسكي دفاتر لديهم كي يتمكنوا من تدوين ما لهم و ما عليهم. و حتى نهاية القرن الخامس عشر كانت العمليات التجارية تُسجل بطريقة السرد التي أوردناها مسبقاً مع إضافة عمود واحد تدون فيه الأرقام الخاصة بالعملية سواء كان المبلغ مدفوعاً أم مقبوضاً، مُستحِقاً للتاجر أم مستحَقاً عليه، و هذا ما يطلق عليه نظام القيد المفرد في مسك الدفاتر و هو نظام يشبه إلى حد بعيد ما نقوم به إلى حد اليوم " كغير مختصين " حيث أننا نسجل شرح العملية و من ثم المبلغ ببساطة كأن ندون " قمت بدفع دفعت ثمن الزيت لصاحب البقالية 200 ليرة ".

لكن مشكلة هذا النظام كانت في أنه يتوجب على ماسك الدفاتر أن يراجع تفاصيل كل عملية تجارية ليعلم هل يجب عليه أن يخصم أم يضيف المبلغ الخاص بها عندما يريد أن يحسب الأرباح أو الخسائر شهرياً، كانت هذه الطريقة تستهلك وقتاً طويلاً و غير فعالة عندما تريد فرز المبالغ بحسب طبيعتها.

الرهبان الرياضيون :

مع استمرار الرهبان بالقيام بالبحوث العلمية و الفلسفية، قام الراهب لوكا باتشيولي في القرن الخامس عشر بتجديد مهنة مسك الدفاتر، و قام بوضع الأسس التي ارتكزت عليها المحاسبة الحديثة، قام باتشيولي بنشر كتاب في العام 1494 ميلادي يشرح فيه فوائد نظام القيد المزدوج، حيث أن الفكرة قامت على إدراج موارد "أي موجودات" الوحدة المحاسبية "الكيان أو الشركة أو المؤسسة .. إلخ" بشكل منفصل عن المطاليب "أي ما للآخرين من حقوق على هذه الوحدة المحاسبية" و هذا ما يعني بشكل واضح إنشاء الميزانية العمومية.

جعلت هذه الفكرة العظيمة مهنة مسك الدفاتر أكثر فاعلية و قدمت صورة أوضح عن قوة الشركة و مركزها المالي. و هذه المعلومات لم يكن لأحد حق الاطلاع عليها سوى صاحب العمل الذي قام بتعيين ماسك الدفاتر، حيث أن العامة لا يحق لهم رؤية هذه السجلات حتى يومنا هذا.

مثال عن تسجيل عملية بنظام القيد المزدوج البسيط:

بيع كمية من البضاعة إلى الزبون رامي نقداً

بيع البضاعة :

مدين : النقدية 100 ليرة

دائن : البضاعة 100 ليرة

وصول المحاسبة إلى الولايات المتحدة

وصلت مهنة مسك الدفاتر إلى الولايات المتحدة مع الاستعمار الأوروبي لها. و على الرغم من أنه كان يطلق عليها هناك في بعض الأحيان اسم "المحاسبة"، لكن مساك الدفاتر كانوا مازالوا يقومون بذات عمليات إدخال البيانات و إجراء العمليات الحسابية عليها ليحصلوا على النتائج التي يقدمونها بدورهم لأصحاب الأعمال التجارية. كانت الأعمال التجارية في حينها صغيرة بما فيه الكفاية كي يتمكن المالك إن أراد لوحده من مسك الدفاتر و معرفة وضع الشركة، و لم يكونوا بحاجة للمحاسبين كي يعدّوا قوائم مالية معقدة .

سكك الحديد الأميركية

شكل ظهور مفهوم الشركات في الولايات المتحدة و إنشاء سكك الحديد محفزاً هائلاً لنقلة كبيرة في تاريخ المحاسبة، حيث انتقل العمل من مسك الدفاتر الى ممارسة المحاسبة، و كانت سكك الحديد أقوى العاملين بشكل واضح، حيث أنه إذا أراد الناس الحصول على ما يريدونه في المكان الذي يرغبون فيه يكون هذا عبر سكك الحديد، فأنت بحاجة لشبكة من الموزعين و جداول زمنية للنقل، و تحتاج لتحصيل المستحقات، و تحتاج لوسيلة تقيّم بها عملك إن كان يتم بالطريقة الأكثر فاعلية، أدخلتنا كل هذه الامور في عالم محاسبة التكاليف و التقارير المالية و نسب التشغيل و تقارير الإنتاج و الوسائل و المقاييس الاخرى لتتمكن الإدارة من الحصول على معلومات كافية لتتخذ قرارات حكيمة مبنية على بيانات دقيقة.

إضافة إلى أن السكك الحديدية جعلت الوصول الى المناطق المختلفة في الولايات المتحدة أمراً يسيراً، فأصبحت العمليات التجارية تتم في أيام بدل أشهر، و أصبحت المعلومات تنتقل من مدينة لأخرى بسرعة هائلة، حتى الساعة لم تكن مضبوطة بشكل صحيح في أنحاء البلاد قبل السكك الحديدية، حيث أنه قبل ذلك كانت كل بلدة تعقد اجتماعاً تقرر به بداية اليوم و آخر تقرر به نهاية اليوم، و قد جرى تغيير هذا النظام القديم ليصبح نظاماً موحداً في البلاد، لأنه كان من الضروري توصيل الحاجيات و تفريغها في أوقات محددة لا يستطيع النظام القديم التنبؤ بها.

شجع تقليص المسافات بين أطراف البلاد و ظهور النظام الزمني الموحد على الاستثمار، و الذي جعل بدوره المحاسبة حاجة ضرورية، فحتى القرن التاسع عشر كان الاستثمار مجرد لعبة تعتمد على قدر من المعرفة البسيطة أو الحظ، حيث كان الناس يشترون الأسهم من الشركات التي يعرفونها سواءً بناءً على معرفتهم بنشاط الشركة أو مُلَاكها، او يقومون بالمغامرة "أو المقامرة" عبر الاستثمار بشكل أعمى في شركة لا يعرفون عنها أي شيء لمجرد أن أقرباءهم أو أصدقاءهم شجعوهم على ذلك، كان هذا الاستثمار مقتصراً على الأغنياء، على الرغم من أن هذه الصورة لم تختفي اليوم تماماً "أصبحت تسمى الاستثمار الأعمى"، إلا أن المحاسبة أتاحت للمستثمرين الجادين فرصة الحصول على معلومات وافية تدفعهم لاتخاذ قرار عقلاني بالاستثمار في الشركة من عدمه.

نشأة القوائم المالية

بالتأكيد ترغب الشركات في زيادة رأس مالها بهدف التوسع في نشاطاتها، و لهذا بدأت بنشر بياناتها المالية أمام العامة على شكل ميزانية عمومية و قائمة دخل و قائمة بالتدفقات النقدية. أصبحت رؤوس الأموال من خارج الشركة أكثر أهمية من رأس المال الذي يقدمه الملَاك في بداية العمل. و على الرغم من أن هذه الاستثمارات قد وسعت أفق الشركات و زادت من حجم عملياتها و نشاطها، إلا أنها زادت من الضغط على الإدارة بهدف إرضاء أصحاب القرار الجدد الذين هم حملة الأسهم، و بما أن حملة الأسهم غير قادرين على الثقة تماماً بالإدارة، فهم بحاجة ملحة لجهة مستقلة تستطيع التعامل مع القوائم المالية، و هذا يقودنا لولادة مهنة المحاسبة.

ولادة المحاسبة كمهنة :

منذ بداية عصر الاستثمار كان المحاسبون العنصر الاساسي في عملية جذب المستثمرين، و أصبحوا لاحقاً جوهر و أساس الحفاظ على ثقة المستثمر. تم الاعتراف بمهنة المحاسبة في العام 1896 عبر قانون يصرح بأن لقب محاسب قانوني معتمد لن يُمنح إلا للأشخاص الذين يجتازون امتحاناً عامّاً و من المتمتعين بخبرة عملية لا تقل عن ثلاث سنوات في مجال المحاسبة. و جاء ظهور مهنة المحاسبة في الوقت المناسب تماماً، حيث أنه بعد أقل من عشرين عاماً ازداد الطلب على المحاسبين القانونيين بشكل كبير في الولايات المتحدة حيث أنها أرادت شن الحروب، و الحروب بحاجة لتمويل أتى عبر البدء بفرض الضرائب على الدخل.

المصدر

هنا