كتاب > روايات ومقالات

شعر الهايكو الياباني

استمع على ساوندكلاود 🎧

"الهايكو" الشعر الياباني التقليدي، لعب دوراً كبيراً في تحديد الهوية اليابانية، إذ لا نكاد نذكر اليابان حتى نتذكر كلمة الهايكو. حيث كتب الهايكو باللغة اليابانية العامية أو اليومية ليبتعد عن اللغة الصينية التي كانت عادة لغة الأدب. إذ يبدو أن علاقة الناس بالشعر المكتوب بالصينية لم تكن حميمة، أو لم يكن هذا الشعر مكتوباً من أجل شريحة كبيرة بحيث يشعرون بأنه جزء من تكوينهم، كما الهايكو، بل كان حكراً على النخبة المثقفة والنبلاء لذلك نجد الموقف نفسه من الشعر الحديث الذي تميز بنخبويته.

ومن هنا تكمن أهمية الهايكو الذي تميز بقِصرهِ تعبيراً عن الحياة السريعة الزوال ومُظهراً أركان الطبيعة ومشاهدها كحركة النحل، وقفزات الضّفدع، وخرير الماء، وحركة اليعسوب، وغيرها.. ميزته الأساسية تكمن بأنه قول لحظة بلحظة، معتمداً على الجملة النّاقصة، كما الحياة فهي لا تظهر أسرارها أيضاً، وتعني كلمة هايكو باليابانية "طفل الرماد" وهي مؤلفة أيضاً من مقطعين هما "الهاي " و"الكو" ويعنيان معاً الكلمة المضحكة، وهذا يدل أن الهايكو هو حسّ الطّرافة بشكل جدي، ففي كثير من الأحيان تتحول الصراحة في الحياة والدقة في التفكير إلى مواقف مضحكة. كما أن الهايكو يكتب وفق مقاطع صوتية محدّدة العدد وهي: 5 في السّطر الأول، و7 في الثاني، و5 في الثالث. وهناك شبه إجماع على هذه القاعدة الذهبية القديمة لعدد المقاطع الصّوتية وذلك لتطابق بين المدة الزّمنية التي يستغرقها النّفس عند اطلاق آهة التعّجب، والمدة التي تستغرقها قراءة سبعة عشر مقطعاً صوتياً، أي أن قراءة الهايكو الواحد تكون بِنَفَسْ واحد وهذا مايعادل الزمن الذي نستغرقه بقولة "آه ياسلام ما هذا الجمال".

ويعد باشو ماتسوو، شاعر اليابان العظيم الأول في تاريخ شعر الهايكو، واسمه الأصلي ماتسو مانونوسا، فهو من رفض نمط الحياة الأرستقراطية، وفضل حياة العزلة والترحال والتأمل.

يا للبِركة العتيقة

قفزت ضفدعة

صوت الماء

(باشو 1644_1694)

ويعد هذا أشهر هايكو في اليابان حتى اليوم وليس هناك ولد أو والد، أو مدرّس أو دارس، لا يعرفه عن ظهر غيب، كما أنه مترجم إلى جميع اللغات وقد أسال من الحبر في اليابان وخارجها بما قد يملأ بِركتين عوضاً عن البركة الواحدة، فهو يمثل الحساسية اليابانية. ويُحكى أن باشو كتبه عشرات المرات حتى وصل إلى هذه الصيغة، ومعنى هذا الهايكو هو تماماً ما يقوله وليس هناك معنى خاص فلولا الهدوء الشديد لما سمع باشو صوت الماء ولما عكّر صوتُ الماءِ لحظة التّأملِ، وما كان للضّفدعة أن تشعر بوجود باشو. إذ إن الهايكو ماهو إلا إحتفاء بالطبيعة، لكن كان يمكنه أن يكون بكلمة واحدة لكن باشو ترك الطبيعة نفسها تعبر عن نفسها كما هي وكل مافعله هو كان نقلاً حيادياً وواقعياً لحدث يجري أمام ناظريه.

من جهة أُخرى فقد إختلف الكثيرون على الفكرة التي تربط بين شعر الهايكو وفلسفة الزن البوذية، حيث أن شاعر الهايكو يملكُ احساساً عظيم بدقائق التراكيب داخل الصور، فهو في طبيعته الروحانية ممارسٌ جيدٌ للتأمل، وتتحس روحه مواطن الجمال في الطبيعة. ولعل هذا النسب يعود في جذره لقيام الشّاعر "باشو" أستاذ الهايكو نفسه، بدراسة مذهب زن البوذي وممارسة التأمل، الذي أثر في شعره لاحقاً والذي بدوره أثر في طلابه أيضا.إذا عندما ينفتح ذهن المرء شعرياً أو صوفياً أو دينياً، يشعر المرء كما شعر باشو بأنه حتى في ورقة من عشب بري يوجد شيء يعلو حقاً على كل المشاعر البشرية الفاسدة.

أما الأن في عصرنا الحديث، نجد أن الهايكو أصبح أكثر تحرراً من القيود، فقد حاول شعراؤه الهروب إلى الحلم من واقع أغترابي زَحمّ بالتناقضات والصّراع بين التقاليد والحداثة، فغدت قصائد الهايكو تجسد الحقيقة في محاولة لإزالة الصّور النمطية، التي كانت الطّبيعة مصدرها لاغير، فاستند بقوة على الأبعاد الرّمزية أو السّريالية أو التّجريدية.

لن أتوقف عند ساقية الوادي

خوفاً على ظلي

أن يتدفق في العالم

(دوجين)

وهنا نجد أن دوجين، الذي كان شاعر هايكو وفيلسوفاً من القرن الثالث عشر بالإضافة لكونه راهب بوذي من طائفة الزن، يقدم صورة خيالية بلغة تحمل الرغبة بالإنتماء للمكان وعدم رغبته بالمغادرة حتى أنه يرفض مغادرة ظله للمكان.

والأن سندع القارئ العربي، الذي أعتاد قراءة الشعر الطويل والمعلقات، للاستمتاع ببعض قصائد الهايكو متأملين أن يكتشف من خلالها روح وفلسفة الشعر الياباني المترع بالبحث عن الجوهر في الطبيعة والكون علّه ينصت قليلاً ويتأمل.

هناك آلاف الحشرات تغني

وهناك واحدة منها

تغني بجنون

(ميتسوهاشي- تاكوجا)

يالهذهِ الأوراق المتساقطة

حيث خطوات من انتظر

تسمع من بعيد

(يوسا-بوسون)

على كتفي

تنسج العنكبوت خيوطها

ذات غروب في الخريف

(توميتا- موبا)

تُريه أثار البعوض

فوق ذراعها

الحبيب البارد الغفلان

(كوروياناغي- شووها)

لأن المدخنة ترمقني

كل يوم

لم استطع اتمام الإنتحار

(هاياشيد- كيني أو)

حتى العين التي لا أرى بها

أنظف جهتها

من بلور النّظارات

(هينو- سووجو)

حب لا أعلن عنه

مرة أخرى

تتراكم الثلوج فوق جبال الثلوج

(أوايدا- غوسينغوكو)

المصادر:

-كتاب الهايكو، ترجمة محمد عضيمة،كوتا كاريا.

-السحر الأسيوي، ترجمة منير مزيد.

-تاريخ الهايكو الياباني، ترجمة سعيد بوتراجي.