الفنون البصرية > فن وتراث

"حديقة الملذات الأرضية" الجزء الثاني - الأرض، بلا خطيئة.

"حديقة الملذّات الأرضيّة" كما كنّا قد ذكرنا سابقاً، هو لوحة من ثلاث جداريّاتٍ للفنّان الهولنديّ هيرونيموس بوش Hieronymus Bosch،

إنّ أحد أهمّ ما يميّز هذا العمل هو قابليّة إغلاق الجزأين اليمينيّ واليساريّ بشكلٍ تامٍّ. فما إن يتمّ ذلك حتّى تظهر لك لوحةٌ أخرى مرسومةٌ في الخلف، ويُعتبَر هذا "الجزء الخارجيّ" لهذه اللّوحة ذا أهمّيّةٍ كبيرةٍ، حيث يكمل من خلاله "بوش" ما قد بدأه داخلاً.

سنعمل على السّير بالتّحليل الفنّيّ لهذا العمل بما يوافق ما اعتمده أعظم نقّاد الفن، ابتداءً من التّصميم الخارجيّ للجداريّة، ومن ثمّ التّصميم الدّاخليّ بجناحه الأيسر فالأوسط، وأخيراً الجناح الأيمن، وقد ارتأى النّقّاد من هذا التّرتيب ما يلائم الغرض الفنّيّ لعمل "بوش" هذا.

اللوح الأوسط:

إنّ أهمّ ما يلفت نظرنا في هذا اللّوح هو مشاركته خطَّ الأفق ذاته الموجود في اللّوح الأيسر، وهذا ما أراد "بوش" الإفصاح عنه كنوعٍ من الرّباط الّذي يصل الجنّةَ بالأرض.

كما يحوي اللّوح الأوسط عدداً كبيراً من البشر العراة إلى جانب عددٍ كبيرٍ من الأصناف النّباتيّة والحيوانيّة، ومع أنّ مدلول هذا اللّوح هو "الأرض"، إلّا أنّ "بوش" عمد إلى إخفاء جوانب عديدة من "الواقعيّة" في تصوير الأرض، حيث يظهر عددٌ من الحيوانات إضافةً لعدّة أصنافٍ من الفاكهة بأحجامٍ هائلةٍ، إضافةً إلى نشاطاتٍ بشريّةٍ شهوانيّةٍ تُقام جماعيّاً أو على شكل أزواجٍ بشكلٍ مبالغٍ وبدون أيّ شعورٍ بالخجل.

ويُضاف إلى ذلك، وجود شخصٍ وحيدٍ في هذه اللّوحة غير عارٍ، إضافةً لكونه الوحيد ذا الشّعر غامق اللّون، يتواجد في الزّاوية السّفليّة اليمنى من اللّوحة، واقفاً داخل كهفٍ، مشيراً إلى امرأةٍ بجانبه مكسوّةٍ بكاملها بالشّعر، ويجد بعض النّقّاد في هذا الأمر دلالةً على ما نعيشه اليوم من حالة تمدُّنٍ أجبرتنا على الابتعاد عن الإنسان الأوّل وعن سلوكيّاته البسيطة ورضاه بجماله الطّبيعيّ.

ويغيب عن هذه اللّوحة التّراتبيّة المنظوريّة، ممّا سمح لـ "بوش" بعرض عددٍ من المشاهد ذات الدّلالات المختلفة، الّتي غالباً ما يغيب عنها الحسّ المنطقيّ للأمور، فعلى سبيل المثال، نرى في هذا الجزء بطّاً عملاقاً يلاعب بشراً بأحجامٍ صغيرةٍ، فضلاً عن أسماكٍ تسير على اليابسة.

تتوسّط اللوحة بركةٌ في داخلها عددٌ من النّساء يحملن سلالاً من فاكهةٍ تشبه الكرز، ويحيط بهنّ عددٌ كبيرٌ من الرّجال العراة يمتطون أنواعاً مختلفةً من الحيوانات، من قردةٍ وأحصنةٍ، بينما يستعرض آخرون ما يقومون به من حركاتٍ بهلوانيّةٍ، وهذا ما جعله "بوش" مدلولاً عن الرّغبة الكامنة لدى كلا الجنسين بجذب الشّريك من خلال القيام بما يبرع به.

يرى الكثير من النّقّاد أنّ غياب الأولاد والمسنّين عن هذه اللّوحة لَهُوَ محاولةٌ لإظهار الحياة كما يحلم بها البشر، بدون عواقب أو متاعب. بينما يرى آخرون -استناداً لما ورد في الجزء الثّاني والثّالث من سفر التّكوين- أنّ اللّوح يحاكي الحياة كما لو أنّ آدم وحوّاء لم يُطرَدا من الجنّة أصلاً.

تابع الحلقة القادمة لنتحدث عن اللوح الأخير من الجدارية

المقال الذي نتحدث به عن اللوح الأول من الجدارية:

هنا

المصدر:

هنا