التاريخ وعلم الآثار > تحقيقات ووقائع تاريخية

دار العلم الطرابلسية، مكتبة المخطوطات الأرقى

وصلت إلى نهاية الرحلة:

في نهاية المطاف، نصل إلى طرابلس في لبنان، وهناك تاريخ مكتبة لا تنسى. في طرابلس حيث سنحط رحالنا، كان هناك أشبه ما يكون للحكم الذاتي، حيث كل ما حولها مقطع أوصاله، ووصل الحد إلى تكون كل مدينة إمارة مستقلة بنفسها(لعل هذا ما كان وراء استمرار الحملات الصليبة) فدمشق إمارة وحلب إمارة والموصل إمارة وحمص إمارة ... وكذلك طرابلس كانت أيضا إمارة، لكنها لم تكن كحال بقية الإمارات، فقد كان فيها تجارة قوية ومرفئ لا يساويه إلا مرافئ إيطاليا، وصناعة الحرير والسجاد بلغت أوجها (السجاد لا تزال صناعته وتميزه حتى يومنا هذا)، أما عن المناعة والحصون فحدث ولا حرج، الشيء الذي جعل منها قلعة منيعة في منئى عن كل المشاكل والصراعات التي كانت تحدث حولها. كان يحكم هذه المدينة بنو عمار، تلك العائلة التي لم تخف ولائها للدولة الفاطمية يوماً، وفي نفس الوقت لم تدخل في صراع مع أي دويلة أخرى تختلف معها في الرأي.

دار العلم الطرابلسية:

من حيث بدأت كل مكتبة تبدأ مكتبة دار العلم في طرابلس، دعم غير مسبوق من حكام طرابلس بني عمار، وقد ذاع صيتها في نهاية القرن العاشر. كيف لا وقد كان فيها معلم لصناعة الورق من أهم المعامل والذي بلا شك دعم المكتبة بشكل كبير (ص147، 5)

أسسها أبو الحسن جلال الملك علي بن محمد بن أحمد صاحب مدينة طرابلس من بني عمار (توفي سنة 1098م) وكانت دار العلم غنية جداً لدرجة أن بعض المؤرخين يعتبرونها من أغنى ما ملكه المسلمون، وكان افتتاحها في عام 1069م حيث كان أبو الحسن قاضياً على حد قول الدكتور يوسف العش (ص149، 5)

بدأت المكتبة بـ 100.000 كتاب نصفهم من نسخ القرآن الكريم حيث كان خطاطو طرابلس المشهورين بتزيينهم الفاتن للمصاحف، يتباهون ويتسابقون لرسم المصحف بطرق مختلفة ومتألقة (ص148، 5)

ولقد نظمت هذه المكتبة تنظيماً دقيقاً لم تشهد له مثيل مكتبات الشام، فكان هناك قاعة لكتب العلوم والفلسفة وقاعة للمصاحف (والواضح أنها كانت مشهورة جداً لكثرة المصادر حول ذلك) وقاعة لكتب التفاسير، لم تكن مجرد مكتبة بل كانت مركزاً ثقافياً رائدا في الشام (ص215، 2، أقرأ أيضا 5 ص148، 149)

وقد أولى بنو عمار هذه المكتبة اهتماماً كبيراً فهيأوا لها الناسخين والعاملين بالعدد الكبير وكانوا لا يتأخرون عن أي رحلة لشراء الكتب (ص148، 5)

ونذكر هنا قائمة بأهم أعلام المكتبة وأمنائها:

علي الطرابلسي المعروف بالقاضي كان أديباً وصنف كتاباً في الخطب يضاهي خطب ابن نباتة، وله مناظرة شهيرة مع الخطيب البغدادي وكانت مهمته مهمة إشراف علمي بحت كما يتضح لنا من سياق خبرته.

القاضي أبو الفضل بن أبي دوح وكان من الواضح أنه ذو سلطة إشرافية على الشؤون المالية كما كان يأمره مؤسس المكتبة جلال الملك.

ويذكر أن المكتبة كان يعمل بها 180 ناسخاً يعملون ليلاً ونهاراً وقد وصل عدد كتبها قبل نهايتها على حد وصف إحدى الروايات إلى 3 ملايين كتاب (ص140، 8)

أما روادها فكانوا من جميع الطبقات ومن مختلف أنحاء الشام من الطلبة والعلماء والفنانين والأدباء والشعراء والنحاة والفقهاء ومنهم من تخرجوا في مجالات علمية عدة، فكانت ذات فائدة عظيمة لما احتوته من نفائش الكتب والمخطوطات (ص125، 3)

النهاية الحزينة:

في عام 1078م تم إعلان الحرب الصليبية، وفي عام 1109م وصلت الجيوش القادمة من أوروبا إلى طرابلس فضربت حصاراً قوياً. كان تعداد الجيش الصليبي كبيراً جداً، وكما قلنا لم تكن طرابلس مدينة تابعة لدولة بكل كانت تحظى بحكم ذاتي، حتى وإن كانت الإمارة قد أقسمت بالولاء للفاطميين، ولكن هيهات، كان السيف قد سبق العذل، ووقعت الهزيمة بعد بضعة أيام من الحصار.

وبينما كان أحد رجال الدين في الحملة الصليبية يتجول في طرابلس ويستكشف المدينة، وقع بصره على المكتبة، فدخل يتجول بين أرجائها، وبدأ يطلع على مجموعتها، ولسوء حظ المكتبة، فقد دخل قاعة المصاحف أولا، فسحب الكتاب الأول فوجده مصحفاً ثم سحب الثاني فكان مصحفاً أيضا ثم الثالث فالرابع وهكذا حتى اعتقد أن المكتبة كلها مكتبة مصاحف، فأصدر امرا بإعدام المكتبة وحرقها، فكانت النهاية المريرة سنة 1109م. (ص216، 2، نفس الواقعة في ص134، 9 ،أيضا ص140، 8، أيضا ص150، 5)

المراجع:

ألف اختراع واختراع = 1001 Invention / سليم الحسني .- ط2: طبعة عربية (ط1: اللغة الإنجليزية، 2006).- لندن: مؤسس العلوم والتكنولوجيا، مانشستير: جامعة مانشستر، 2006.- أبو ظبي: أبو ظبي للإعلام ، 2011

لمحات من تاريخ الكتب والمكتبات / عبد اللطيف الصوفي .- دار طلاس للطباعة والترجمة: الجزائر، 1987

من تاريخ الكتب والمكتبات في البلدان العربية / خيال الجواهري .- وزارة الثقافة في لجمهورية العربية السورية: دمشق، 1992

لمحات من تاريخ الكتب والمكتبات / عبد الستار الحلوجي .- دار الثقافة للنشر والتوزيع: القاهرة، 1991

دُور الكتب العربية العامة وشبه العامة لبلاد العراق والشام ومصر في العصر الوسيط/ يوسف العش، ترجمة نزار أباظة ومحمد صباغ .- دار الفكر المعاصر: بيروت، دار الفكر: دمشق، 1991

البداية والنهاية/ إبن كثير، تحقيق: عبد الله التركي.-الرياض: دار عالم الكتاب، 2002 (مج11)

الفهرست/ أبو الفرج محمد بن اسحاق ابن النديم، تحقيق:غوستاف فلوجل.- بيروت: مكتبة خياط، [د.ت]

المكتبات في الحضارة العربية الإسلامية / ربحي مصطفى العليان .- عمان: دار الصفاء، 1999

المكتبات في الإسلام / محمد ماهر حمادة .- بيروت: مؤسسة الرسالة، 1981

مراجع أجنبية:

The Golden Age of Islam\ Maurice Lombard.- New York: Markus Wiener Publishers، 2003

Sea of Faith: Islam and Christianity in the Medieval Mediterranean World\ Stephen O’Shea.- London: Bloomsbury، 2006

A History of Medieval Islam\ John J. Saunders.- London: Routledge، 1978

When Baghdad Ruled the Muslim World: The Rise and Fall of Islam's Greatest Dynasty\ Hugh Kennedy.- Massachusetts: Da Capo Press، 2006