التاريخ وعلم الآثار > منارات ثقافية

دار العلم البغدادية

دار السلام ... بغداد من جديد:

بعد رحلتين من الإتجاه غربا، آن الآوان كي نعود شرقاً قليلاً، ونعود إلى مدينة كنا قد زرناها أثناء تعرفنا على مكتبة دار الحكمة وصاحبها المأمون، إنها دار السلام، بغداد. بينما كنا نتجه في رحلاتنا السابقة، كانت بغداد تتقلب بين عصور نهضة وعصور تدهور، لم تستقر أبدا، وتتقلب مع تقلب السياسة، وازدياد وتيرة الحروب، قبل حوالي 100 سنة من الحروب الصليبية التي ستغير كثيرا من مجريات التاريخ. نحن الآن في عام 991م حيث البويهيون وفترة حكمهم للعراق، وخلفاء عباسيين يختلفون كليا عن الخلفاء في عصرهم الأول. الاختلاف كان حتماً إلى الأسوء، ولكن بعيداً عن السياسة، كانت بغداد في جو مختلف تمام من العلم وكأن المامون لايزال حياً بين الناس، وروح العلم وعصريته لازلت واضحة رغم ضعف الدولة وعدم اهتمامها، لكن ذلك لم يمنع من ظهور واحدة من كبرى المكتبات في الحضارة الإسلامية.

أكثرها ازدحاما ... أكثرها علما:

حي الكرخ، اكتظاظ سكاني عالٍ، وازدحام في كل مكان، وللوهلة الأولى قد يخطر في بالك أن الجو السائد بسبب الازدحام هو الجهل والتخلف، ولكن الحي كان عكس ذلك تماماً. لقد كان هذا الحي مركزاً ثقافياً مهما تبوأ في القرن العاشر المكان الأول لجذب العلماء والباحثين من كل أصقاع الأرض، حيث كانوا يجتمعون فيه ويبسطون نشاطهم. في هذا الحي يوجد محلة كانت من أحسن محال بغداد بين برجين قديمين للمدينة، سميت محلة "بين السورين" (ص132، 5)

كان وزير بهاء الدولة البويهي "سابور بن أردشير" أبو نصر (توفي سنة 1025م) رجل ذو ثقافة واسعة ومحب للعلماء، كان في شبابه كاتباً، وبدأ يتطور ويرتقي في سلم الوظائف، حتى غدا واحداً من أهم رجال الدولة ليولى الوزارة 3 مرات لكفاءته. (ص123، 3)

في محلة بين السورين آنفة الذكر، اشترى الوزير داراً كبيرة فبناها وجعلها بيضاء وسماها دار العلم فوقل إليها الكتب من شتى العلوم (ص123، 3)

دار العلم:

في عام 991م اشترى الوزير سابور داراً كبيرة، فعمرها وأمر بتبليطها بالرخام وطلائها بالكلس فغدت بيضاء مميزة عن كل ما حولها من أبنية ومميزة بين كل مباني بغداد. وما إن انتهى من أمر البناء حتى ببناء المجموعة المكتبية، فاشترى الكتب من أفضل الخطاطين وأشهرهم وكبار العلماء (ص133، 5)

كان شراء الكتب عملا ناجحا بامتياز من حيث الكم، فقد بلغ عدد مجموعتها المكتبة 10400 مجلد بينها 100 مصحف بخط بني مقلة ذائعي السيط في العصور الوسيطة بخطهم الجميل، بينما كانت أغلب الكتب بخطوط أصحابها(ص213، 2)

وما لبثت أن تصاعدت شهرة المكتبة وذاع بين المؤلفين خبرها، فأصبح عدد كتبها يزداد بسرعة كبيرة، فبدأ المؤلفون يتسارعون لإيداع كتبهم فيها، ولعلنا نذكر هنا أهمهم وأشهرهم، إنه الشاعر العظيم أبو العلاء المعري (ص53، 4)

ولكي تتولى المكتبة شؤونها المالية بنفسها، أوقف الوزير سابور كثيراً من أملاكه ليعود ريعها لصالح خدمة المكتبة وعمالها ذوي الأجور العالية، فظلت طول حياتها تعتمد على تلك الأوقاف ولم تحتج لهبات من أي أحد (ص130، 10)

وكانت المكتبة تملك "سياسة واضحة" في قبول الهدايا، فكانت لا تقبل الهدية قبل فحصها، وهذا مبدأ ونهج المكتبات الحديثة، فأصبحت المكتبة بذلك تضم أنفس كتب العلوم العربية التي نسخها الخطاطون، أو علماء مشهورون بدقتهم، وسعة معرفتهم (ص134، 5)

وهكذا أصبحت المكتبة المرجع الأول يقصدها كبار العلماء في ذاك العصر وينهلون منها المعلومات الموثوقة، وكدأب المكتبات التي سبقتها، فقد فتحت المكتبة باب المناظرات العلمية، ومن بين أشهر تلك المناظرات تلك التي كانت تجري في الفلسفة ويقودها أبو العلاء المعري (ص134، 5)

ومما يذكر عن المكتبة فضلها على اللغة العربية، فيعتبر صنيعها مع الكتب الأدبية والشعرية عظيما، فكانت غالبية موادها أدبية من حيث الموضوع، فجمعت فيها أنفس كتب الشعر وأحلاها (ص136، 5)

فقد كانت "حرم علوم العربية" على حد وصف الدكتور يوسف العش، فتطورت في كنفها اللغة وارتقت خطواتاً بارزة في الشعر والنثر والآداب العربية عموما (ص146، 5)

ولكن هذا لا يعني أبدا أنها لم تكن تحوي كتباً علمية الطراز، فيذكر الدكتور يوسف العش أن المكتبة كان فيها من علوم الطب والحكمة والفلك والهندسة، وهذا إن كان يبرهن على شيء فهو يبرهن على أن علوم القدماء امتزجت بحياة المكتبة التي غلب عليها العنصر الديني (ص136، 5)

أسماء خلدت نفسها بحروف من ذهب:

لابد لنا أنا نعلم أن المكتبة كان فيها نوعان من العمل، الإشراف الفني أي الأعمال المتعلقة بالنسخ وتنظيم المكتبة وترتيب رفوفها وكتبها، والإشراف العام وكان يتخص بالإدارة المالية للمكتبة والإدارة العامة لها (ص137، 5)

وقد عمل في حياة سابور فيها ثلاثة أشخاص:

محمد بن الحسين أبي شيبة

أبو عبد الله محمد بن أحمد الحسني البطحاني

أبو عبد الله الحسين بن هارون الضبي (ص138، 5)

أما بالنسبة للإشراف الفني فكان عليها:

أبو محمد بن موسى الخوارزمي (توفي 1012م)

أبو أحمد عبد السلام بن الحسين بن محمد البصري الملقب بالواجكا (940م – 1014م)

أبو منصور محمد بن علي بن إسحاق بن يوسف الكاتب (توفي 1023م)

أبو محمد بن أحمد بن طاهر بن حمد (ص139-141، بتصرف، 5)

وبعد عدة سنوات من وفاة الوزير، لم تتوقف مكتبته عن العمل، حيث تولى أمرها رجل من أعيان بغداد، وهو في نفس الوقت والد زوجته، إنه الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسن بن موسى، شقيق الشريف الرضي أيضا أحد أهم أعيان بغداد (ص138، 5)

وللشاعر أبو العلاء المعري قصص طويلة مع المكتبة، فلطالما كان يذكر المكتبة في شعره، ويكتب في رسائله دوما كلاماً طيبا عنها، حتى أنه قال فيها: كم أحب أن أبقى فيها (دار العلم) طيلة حياتي (ص144، 5)

فتحت المؤسسة بابها لكافة العلماء دون تمييز، وكانت تقدم لهم المأوى وتدعوهم للتعلم والقراءة وجعلت تقدم خدماتها لعامة الناس، وتحدث فيما بينهم حب العلم والإبداع (ص146، 5)

ضربتان قسمتا ظهر المكتبة وتسببتا في نهايتها:

كان هناك عائلة مشهورة في تاريخ بغداد يعرفون ببني عبد الرحيم، دخل العديد من أفردها عالم السياسة، والواضح أنهم كانوا عائلة كبيرة من حيث العدد، فقامت أفراد هذه العائلة بعمل فريد لم يفعله أحد من قبلهم، لقد قامو بنهب المكتبة وبدأوا بالاستيلاء على كتبها الجميلة وضمها إلى خزائنهم. (ص146، 5)

كان ذلك الحدث الأول، أما الحدث الثاني، فكان نشوب حريق ضخم في حي الكرخ، أتى على عدد كبير من محتويات المكتبة، وذلك إبان دخول جيش طغرل بك إلى بغداد سنة 1059م، كانت فاجعة حقيقية، تهافت الناس على المكتبة يطفئون الحريق، فنجا من المكتبة جزء منها، ولكن بعض الناس سارعوا في نهب ما تبقى، وبدل من أن يتدخل عبد الحميد الكندري وزير طغرل بك من أجل إيقاف هذه الجريمة، قام ينتقي بنفسه أفضل كتبها ثم أرسلها إلى بلده خراسان (ص146-147، 5، إقرأ أيضا الواقعة في ص132، 10، وأيضا في ص139، 9)

"ما من مكتبة عربية ذكرت في حديث الأدباء مثلما ذكرت هذه المكتبة" لم أجد غير هذه العبارة لتعزينا في وصف المكتبة كما قالها الدكتور يوسف العش

المصادر والمراجع:

ألف اختراع واختراع = 1001 Invention / سليم الحسني .- ط2: طبعة عربية (ط1: اللغة الإنجليزية، 2006).- لندن: مؤسس العلوم والتكنولوجيا، مانشستير: جامعة مانشستر، 2006.- أبو ظبي: أبو ظبي للإعلام ، 2011

لمحات من تاريخ الكتب والمكتبات / عبد اللطيف الصوفي .- دار طلاس للطباعة والترجمة: الجزائر، 1987

من تاريخ الكتب والمكتبات في البلدان العربية / خيال الجواهري .- وزارة الثقافة في لجمهورية العربية السورية: دمشق، 1992

لمحات من تاريخ الكتب والمكتبات / عبد الستار الحلوجي .- دار الثقافة للنشر والتوزيع: القاهرة، 1991

دُور الكتب العربية العامة وشبه العامة لبلاد العراق والشام ومصر في العصر الوسيط/ يوسف العش، ترجمة نزار أباظة ومحمد صباغ .- دار الفكر المعاصر: بيروت، دار الفكر: دمشق، 1991

البداية والنهاية/ إبن كثير، تحقيق: عبد الله التركي.-الرياض: دار عالم الكتاب، 2002 (مج11)

الفهرست/ أبو الفرج محمد بن اسحاق ابن النديم، تحقيق:غوستاف فلوجل.- بيروت: مكتبة خياط، [د.ت]

تاريخ بلاد الشام: دراسة اجتماعية اقتصادية فكرية وعسكرية / أحمد علي اسماعيل علي .- مركز الشام للخدمات الطباعية: دمشق، 1998

المكتبات في الحضارة العربية الإسلامية / ربحي مصطفى العليان .- عمان: دار الصفاء، 1999

المكتبات في الإسلام / محمد ماهر حمادة .- بيروت: مؤسسة الرسالة، 1981

مراجع أجنبية:

The Golden Age of Islam\ Maurice Lombard.- New York: Markus Wiener Publishers، 2003

Sea of Faith: Islam and Christianity in the Medieval Mediterranean World\ Stephen O’Shea.- London: Bloomsbury، 2006

A History of Medieval Islam\ John J. Saunders.- London: Routledge، 1978

When Baghdad Ruled the Muslim World: The Rise and Fall of Islam's Greatest Dynasty\ Hugh Kennedy.- Massachusetts: Da Capo Press، 2006