التاريخ وعلم الآثار > تحقيقات ووقائع تاريخية

حريق لندن

يجد البريطانيون في كوب من الشاي متعةً لا تُضاهى، فيسمونها "حفلة شاي" أو “Tea Party” فيتجاذبون أطراف الحديث، وبحسِّ الفكاهة البريطانية يتناولون استراق السمع إلى أصوات الأجداد في استعادة ذكريات الماضي، ذكريات كان لها وقتها الجيد والسيء في آنٍ واحدً معاً، في مدينة مكتظّةٍ بتوليفةٍ من السكان، لا تجد لهم مثيلاً في العالم، ينظرون إلى كنيسة القديس بولس على اختلاف أديانهم، ويقولون في خلدهم "لم تكن الكنيسة تبدو هكذا قبل 1666م" بل كلُّ لندن لم تكن هكذا في سنة 1666م.

لاحظنا من خلال قراءتنا للتاريخ أن المدن التي تحلّ بها الكوراث، تتشارك في التغيّر الحتمي الذي سيأتي بعد الكارثة. الزلازل، التسونامي، البراكين، والحرائق الكبرى، كل تلك الآفات تبدو للوهلة الأولى مصيبة عظمى ذات وقع كارثي، لكن ماذا عن التغيير ما بعد الكارثة والدروس المستفادة منها، ألا يمكن تصنيف الكارثة هنا على أنها نعمة؟ هذا ما سنعرفه أكثر عندما نُعيد فتح ملف الحريق الكبير في لندن

أيام أيلول الأولى حارّةٌ كعادتها، كان قد انتهى الصيف على الروزنامة فقط، لكن الجو يبقى غير منعش، مَشوباً بدرجات الحرارة المرتفعة، كان اليوم يصادف الثاني من أيلول، في شارع Pudding Lane في محل Thomas Farynor لصناعة الخبز الملكي الخاص بالملك تشالرز الثاني، استيقظت خادمة من نومها مذعورة في الساعة الواحدة صباحاً، لتجد الخباز وعائلته قد لاذوا بالفرار من شقّةٍ أضرمت النار أركانها. يذكر المؤرخون هنا أن حريقاً كبيراً كان لابد من وقوعه، لسببين وجيهين، الأول هو أن المدينة كانت في وضع سياسي وديني متخبط، والثاني هو أن المدينة قد اكتظت بالبيوت المصنوعة من الخشب، وخصوصاً الأحياء الفقيرة، حيث تنبّأ دانييل باكر سنة 1559 بهذا الحريق، أما عمدة لندن اللورد فقد حذره الملك تشارلز من الشوارع الضيقة والخطر الناجم من المنازل المخالفة والتي تبنى بشكل متراكب، وليزيد الطين بلّة عصف بالمدينة صيفٌ طويلٌ وقاسٍ، ما استنزف احتياطي المدينة من الماء، أضف إلى ذلك تفشي وباء الطاعون، فكان المجتمع غير جاهز لتلقي هكذا كارثة.

وبحلول أيلول/سبتمبر 1666 كلُّ ما كانت لندن بحاجته هو شرارة صغيرة في محل الخبز ذاك، كان يوم أحدٍ، والساعة تجاوزت منتصف الليل. هناك بالقرب من جسر لندن، هربت عائلة الخباز عبر الأسطح وبقيت خادمته لتلقى مصرعها وتكون أول ضحية لهذه النار. وبسبب الطرقات الضيقة والبيوت الخشبية المتراكبة فوق بعضها، انتقلت النار في البيت بسرعة كبيرة، لتصل إلى جسر لندن، حيث ستحدث كارثة الكوارث بما لا يَدَعُ مجالاً للشك، أججت الريح تلك النار حاملةً لهيبها غرباً متجهة أكثر باتجاه البيوت الخشبية. أمر الملك تشارلز الثاني عمدة لندن بتدمير البيوت واحتواء النار، لكن النار كان تقفز فوق كل حاجز يتم وضعه، لتحرق النار ثلث جسر لندن، حيث حدثت أزمة الأزمات بتقسيم المدينة وخسارة جسر كان سيوفر الكثير من الوقت في احتواء الحريق، هي كارثةٌ أخرى ستُحيل أمجاد لندن وبُنيَتَها التحتيّة إلى خراب، وبحريق الجسر انحصرت النار في الضَّفة الشمالية.

سادت حالة من الذعر في الأرجاء، نارٌ لا يمكن السيطرة عليها، وكانت معركة اللندنيين للبقاء، ما استدعى الموقف وجود رجلٍ عسكريٍّ في المكان، إنه دوق يورك حيث استدعى المليشيات من أجل المعركة الكبرى من كل مكان ولكن اللهيب استمر دون هوادة يلتهم في طريقه كل ما يمكن أن يصل إليه وبحلول الظهيرة كان شارع Gracechurch، وشارع لومبارد، وتقاطع الطرقات المعروف باسم التقاطع الملكي، ومنطقة ثرية من شبسد قد التهمها الحريق بالكامل، لقد كان بالإمكان أن نرى الدخان المتصاعد من جامعة أوكسفورد من هَوْلِ الموقف. وكان سكان لندن قد بدؤوا بالفرار إلى مساحات مفتوحة من مورفيلدز وفينسبوري هيل. وبحلول الليل ازدحمت الشوارع بعَرَبات الفارين من لندن، والنار تتجه نحو تيلينج لين، حيث كنيسة القديس بولس إحدى أعظم وأهم كنائس لندن على الإطلاق، طالها الدمار هي الأخرى وكان أعظم دمار فَطَرَ قلب كل بريطاني، حيث اشتعلت النار في الكنيسة من الأسفل إلى الأعلى ثم ما لبثت أن انفجرت الحجارة من داخل المبنى لتصبح الكتدارئية خلال ساعات عبارة عن ركام. وبوصول النار إلى شبسد، أوسع وأغنى شارع في لندن كان لابد لدوق يورك والملك تشارلز أن يتصرفوا، فأمروا بهدم البيوت الفارهة كإجراء وقائي من أجل حصر النار وإيقاف تمددها كونها منطقة واسعة ويمكن السيطرة عليها، وبهذا وصلت النار فعليّاً إلى ذروتها، حيث انحصرت في المعبد الأوسط وفيتر لين، استغل العاملون في الإطفاء فرصة تباطؤ الريح وتغيير اتجاهها، حيث اتجهت النار مع اتجاه الريح الجديد المفضي إلى النهر، ليأتي يوم الأربعاء (أي بعد ثلاثة أيام من الحريق الذي وصف أحد المؤرخين شدته بقوله أن الحَمْام تم شواؤه في السماء) وتتباطأ النار. وبحلول الخميس انطفأت النار بشكل تام، بعد أن التهمت ما يقدر ب 373 فدّاناً، من برج لندن في الشرق حتى شارع الأسطول وفيتر لين في الغرب - وحُرِق حوالي 13200 منزلاً و84 كنيسة و44 شركة بالإضافة إلى 100 ألف شخص بلا مأوى، أي سُدْسُ سكان بريطانيا. رسمياً توفي أربعة أشخاص فقط، ولكن يُشير جون إيفلين في مُذكّراته إلى: "كانت هناك رائحة منبعثة من بعض الجثث لأناس فقراء غير معروفين "، ومن المرجح أن العدد الحقيقي قد كان أعلى بكثير، وارتفع أكثر في الأشهر التالية.

كنيسة القديس بولس والنار تلتهمها

وما إن هدأت وشائجُ تلك النار، حتى طفا على الواجهة سؤالٌ غريب، من المسؤول عن هذا الحريق؟ توجهت أصابع الاتهام إلى الأجانب، حيث تم اتهام الروم الكاثوليك والفرنسيين، وبدأت الاعتداءات تطالُ الفرنسيين والهولنديين في كل مكان، ليصدر القول الفصل في هذا الموقف من الملك تشارلز، حيث سافر لحي مورفيلدز ليشاهد الخراب بعينيه، ويصرح: "الأجاناب أبرياء، لقد كان قضاءً وقدراً، عملٌ صادرٌ من قدرة الرب وحده لا من صنع أي إنسان أبداً" وقد اقتنع البعض لكن بسبب الغضب والحزن استمر الباقون في التصديق بأن الأجانب هم من فعلوا ذلك من أجل البحث عن كبش فداء، لتبقى قضية الكاثوليك واتهامهم بإضرام النار حيّةً لمئة وخمسين عاماً بعد ذلك التاريخ.

خريطة توضح المناطق التي تضررت من جراء الحريق الكبير

يقف جسر لندن اليوم وبجواره نصبٌ تذكاريٌّ عملاق بُنيَ في عام 1671 في الذكرى السنوية لهذه الحادثة. كانت أزمةً تخطّت كل الأزمات في تاريخ بريطانيا، حصدت كل ما هو عزيزٌ وغالٍ، ولكن وقف المجتمع اللندني مرة أخرى بقوة وشموخ وأعاد بناء مدينته، تلك المدينة التي ستتعرض للكثير من الكوارث ولكنها ستقف من جديد مرة أخرى، لأنها بريطانيا التي لا تعرف الهزيمة.

النصب التذكاري لحريق لندن الكبير

المراجع

هنا

هنا

London: The Biography by Peter Ackroyd (Chatto & Windus، 2000)

A City Full of People: Men and Women of London 1650-1750 by P. Earle (1994)

The London Encyclopaedia by Christopher Hibbert & Ben Weinreb (eds)(Macmillan، 1983)

The Diary of Samuel Pepys by Samuel Pepys، edited by Robert Latham and William Matthews (1970-83)

Restoration London by Liza Picard (Weidenfeld & Nicolson، 1997)

The Rebuilding of London After the Great Fire by T.F. Reddaway (1940)

The Building of London by John Schofield (1984