البيولوجيا والتطوّر > التطور

العثور على إحدى الحلقات المفقودة في تطور الإنسان والقرود العليا

خضع أسلاف القردة العليا؛ متضمنين أسلاف البشر؛ لتغييراتٍ وراثية كبيرة، إذ نُسِخت ونُشِرت قِطعٌ صغيرةٌ من الـ DNA (الحمض النووي الريبي المنقوص الأوكسجين) عبر الصبغيات التي تحملها، ولكن عند اختفاء هذه القطع الصغيرة؛ أخذت معها قطعًا أُخرى عبر الصبغي الذي يحملها، وتكرَّرَ هذا النمط غير الاعتيادي في مناطق مختلفة من الجينوم (المَجين) في القردة العليا فقط؛ أي قردة البونوبس والشامبانزي والغوريلات والبشر.

بدأ العلماء في كشفِ وظائف كثيرٍ من المورّثات التي وُجِدت في هذه المناطق، والتي تؤدّي دورًا مهمًّا في دماغنا وتطور الخلايا الجديدة، ويبدو أنَّها تؤدّي دورًا في حجم الدماغ وتطوره أيضًا، وبغضّ النَّظر عن نسخ المورّثات الرابطة في تطور البشر، لكنَّ معظمها لم يُحلَّل على نطاق واسع، فالتركيب (البِنية) المتكرر للمناطق المنسوخة يجعلها صعبة الدراسة باستخدام الأساليب الوراثية العادية.

يقول James Sikela، الأخصائي في علم الوراثة في جامعة كولورادو: "تُتجاهَلُ هذه المناطق من الدراسات الوراثية التقليدية لأنَّها مناطق مُعقَّدة، ولم تُسلسَلْ بعض هذه المناطق تسلسلًا كاملًا، فهي ليست مهمّة فحسب، بل غير مفسرة كليًّا للأسف."

انفجار وراثي:

في عام 2007؛ تبنّى Evan Eichler -وهو أخصائي في علم الوراثة في جامعة واشنطن- وزملاؤه مهمَّةَ دراسةٍ شاملةٍ لهذه المناطق المكررة في الجينوم (المَجين) البشري؛ ومع أنَّ العلماء لا يعرفون الآلية التي تعمل وفقها المناطق المكررة؛ لكنْ يبدو أنَّها تمسح (تزيل) قطعًا مجاورةً من الـ DNA في أثناء نسخ نفسها وتضيف النسخَ الجديدة في مكان جديد على الصبغي، ثم تنسخ مرَّةً أُخرى بعض التسلسلات حولها وتنتقل إلى مكان جديد، ويبدو أنَّه عاملٌ وراثيٌّ غيرُ مستقر ممَّا يزوّدنا بقالبٍ لتغيُّر تطوري. وبهذه الطريقة والتي تُخلَقُ فيها مورّثاتٌ جديدةٌ؛ إذ عندما تدخل النسخ الجديدة في أماكن مختلفة في المَجين؛ فإنَّها تجلبُ معها قطعتَين غريبتين سابقتين من الـ DNA وتقرّبُ قطعًا غريبة من بعضها، ممَّا قد يؤدي إلى مركبات وظيفية جديدة كالبروتينات.

وتختلف هذه الطريقة “الخلط (المزج) والمطابقة” عن النموذج التقليدي لتخليقِ المورثات، التي تُنسَخُ فيها مورثةٌ موجودةٌ، وتستطيع النسخة الجديدة تطوير وظائف جديدة. ويبدو هذا النمط من النَّسخ مميّزًا للقردة العليا؛ ممَّا يعني أن الآلية نفسَها خاصةٌ بهذه الأنواع. أمَّا في الحيوانات الأخرى فإنَّ المناطق المنسوخة تتوضع بعضها بجانب بعض دون أن تتبعثر عبر الصبغي. وتتميز هذه المناطق المنسوخة في القردة العليا بنشاطها الزائد، ممَّا يعني أن مورّثاتها تتفعّلُ أكثر من المورثات الأخرى؛ أي تنتج RNA أكثر ومن ثَمَّ بروتينات أكثر وبذلك؛ فهي مهمة وظيفيًّا.

وصف Eichler وزملاؤه حتى الآن قرابة ستٍّ من هذه المناطق، وكلٌّ منها مميزة في الصبغي الخاص بها، وركَّزت معظم هذه التحاليل على التاريخ التطوري للمنطقة الصبغية؛ أي من أين أتت هذه الجينات، وبأيّ سرعةٍ تطورت، وما علاقتها بعضُها ببعضٍ. إذ اعترفوا بصعوبة عملهم وحتَّى استعصاءِ فهم بعض الأشياء عليهم مع أنَّهم استطاعوا دراسةَ وظائف العديد من الجينات المرتبطة بمناطق النسخ.

ما يريد العلماء معرفته هو أهميةُ هذه الجينات في التطور. فوفقاً لـ Eichle؛ فإنَّ ثلث هذه الجينات المرتبطة بمناطق النسخ تُظهِرُ علاماتِ اصطفاء إيجابية؛ أي إنَّها تعزّزُ نجاةَ حامليها وتنتقل بذلك إلى الجيل الجديد مشاركة في التطور؛ مقارنةً بـ 5% من الجينات الأخرى. وتبدو إحدى هذه المورثات أسرعَ مورّثةٍ متطورة في البشر. لكن حذَّر Eichler من صعوبةِ قياس الاصطفاء الإيجابي في هذه الجينات الخاصة بالبشر والقردة، وذلك بسببِ صعوبة مقارنتها بشيءٍ آخر.

ولقياس الاصطفاء؛ يحتاجُ العلماء إلى مقارنةِ المورّثة في أنواع مختلفة لمعرفة درجة تغيّرها؛ مثل: الحلقات في جذع الشجرة، فإنَّ المناطق الخارجية في هذه المناطق المنسوخة من الصبغيات هي الأحدثُ، وتنتسخ من الحلقة التي تسبقها، وتميلُ هذه المناطق إلى أن تكون الأكثر تغيُّرًا من فردٍ إلى آخر، وبذلك؛ يمكن أن تؤثر في الأمراض، فزيادة نسخ أو حذفها من قطع الـ DNA المهمة يؤثر في الأداء الوظيفي للخلايا والأعضاء. 

ويطمح فريق Eichler إلى استخدام طريقتهم لملاحقة التغيّرات في المناطق المنسوخة، ممَّا قد يشرح ما تفعله هذه الجينات، وسيدرس الباحثون التغيّرات في 30 جينًا خاصًّا بالبشر في هذه المناطق في أطفال مصابين بأمراض تطورية، كالإعاقة الفكرية والصرع، وإن وُجدت تغيّراتٌ في مورثة أو منطقة ما مرتبطة بهذه الخصائص -كتغيّر حجم الدماغ- فإنَّ ذلك يعطينا إشارة إلى عمل هذه المورثة.

وتبدو المورثات المتعلقة بمناطق النسخ التي درست حتى الآن مهمَّةً في تكاثر الخلايا؛ إمَّا في تسريع العملية وإمَّا في إبطائها، وتُعبّرُ هذه المورثاتُ عن نفسها في كثير من الأنسجة، لكنَّ تعبيرَها مرتفعٌ في الدماغ، وغالباً في الخلايا العصبية وفي مناطق أخرى تتميز بانقسامات خلوية سريعة، وفي الواقع؛ يُعتقد أنَّ بعض هذه المورثات ترتبط بالأورام عندما تُفرِطُ في نشاطها.

أدمغة أكبر:

منذ 3.4 مليون سنة؛ أنجزت إحدى مناطق النسخ هذه -والموجودة على ما يُسمَّى الآن بالصبغي 1 في البشر- إحدى قفزاتها التطورية مضيفة إلى نفسِها نسخة من مورثة تُعرف بـ SRGAP2 بعد مليون سنة، وحدث تطوُّرٌ كبيرٌ آخر بتخليق مورثةٍ بنت لتلك المورثة.

لا تحملُ أيٌّ من الثدييات التي دُرِسَ مَجينها أكثر من نسخة واحدة من تلك المورثة، وتتوافق هذه القفزة مع نقطة هامة في تاريخ تطور البشر وهي تطور الـ Australopithecus إلى الـ Homo habilis منذ 2-3 مليون سنة، وقد كان الدماغُ البشري في طريقه إلى الزيادة في الحجم.

والمورثة البنت المعروفةُ باسم SRGAP2C؛ قد يكون لها أهمية خاصة في تطور الدماغ البشري؛ ففي 2012؛ أظهر مجموعة من العلماء قدرةَ SRGAP2C على التأثير في هجرة الخلايا العصبية في الدماغ، وذلك بإظهار أثر المورثة البشرية في الفئران، فإنَّ المورثة تُبطِئُ نضجَ خلايا معينة في الدماغ وتحفّزُ تطوُّرَ ما يُسمَّى بـ “الشوكات” والتي تساعدُ الاتصال بين الخلايا الدماغية. وتُظهِرُ النتائج التي حصلنا عليها من مورثة الـ  SRGAP2 كيفَ أنَّ المورثات الخاصة بالبشر قادت التطورات في الخلايا العصبية. 

الـ DNA ذو الحدّين:

تعدُّ مناطق النسخ مُقامَرةً تطوريةً نوعًا ما؛ إذ إنَّ التغيراتِ الوراثية نفسِها التي قد تساعد في تطوير مورثات جديدة قد تؤدي إلى حذف مورثاتٍ موجودة أو تدميرها، أو الحصول على نسخ كثيرة، وهذا قد يشرح قابليتنا لتطوير الأمراض. وقد رُبِطت بعضٌ من هذه المناطق باضطراباتٍ دماغية تتضمَّنُ الإعاقة الفكرية والفُصام (الانفصام في الشخصية) والصَّرَع. 

وعندما فتش الباحثون عن المناطق الوراثية التي تُنسَخُ في البشر أكثر منها في القردة العليا الأخرى؛ وجدوا أنَّ قطعةً صغيرةً من الـ DNA والتي تُسمَّى بـ DUF1220؛ قد نُسِخت في البشر نسخًا أسرع من أيّةِ منطقة مولدة للبروتين في المَجين، وقد افتُرِضَ وجودُ رابط بينها وبين حجم الدماغ، مما يشرح أنَّها ساعدت في تطور الدماغ البشري وأمراضه أيضًا، فوجود هذه المورثة بكميات أقلَّ أو أكثرَ قد يكون مضرًّا. 

إنَّ DUF1220 ليست مورّثةً بحدّ ذاتها، بل هي مكون مورثي (وراثي) موجود في عائلة المورثات، وتحمل المورثة المفردة من 5 إلى 50 نسخة منها. وعمومًا؛ فإنَّ الإنسان العادي يحملُ قرابةَ 250 نسخة من DUF1220، أمَّا القِرَدة الأخرى فتحمل 90-125 نسخة، وتحملُ السَّعادِينُ 30 نسخةً، أمَّا غير الرئيسيات فتحمل أقلَّ من 10 نسخ.

وفي 2012؛ استُخدِمت أدواتٌ خاصةٌ لحساب عدد النُّسَخ في الأشخاص الأصحَّاء، واكتشفوا أن زيادة عدد النسخ تعني زيادة المادة الرمادية؛ أي زيادة الخلايا العصبية.

ومع أنَّ تكرراتِ DUF تبدو ذات إيجابية تطورية بالنسبة إلى حجم الدماغ؛ لكنَّها قد تُبدي آثارًا سلبيّةً أيضًا، وتتركز DUF في مناطقَ غيرِ مستقرَّةٍ من الصبغي 1 والمعروف بـ 1q21.

ويرتبط الحذفُ أو النسخ في هذه المنطقة بعدد من الاضطرابات التي تتضمن التوحُّد والفصام وأمراض القلب وصِغَرَ حجم الرأس أو كبره وأيَّ نقصٍ في حجم الدماغ أو زيادته زيادةً كبيرة.

وقد درس فريق Sikela تسلسلَ منطقة 1q21 بأكملها، وتبَّين لهم أنَّ تكراراتِ DUF1220 هي الأكثر ارتباطًا بحجم الدماغ في الأشخاص المصابين بصغر الرأس. “أدّى العدد الكبير من النسخ في النسل البشري إلى كلفة خطيرة.” 

المنطقة المجهولة:

مع أنَّ الدليلَ يدعمُ أهمّيةَ مناطق النسخ في تطور البشر ودورها، لكنْ؛ هناكَ أسئلةٌ كثيرة لم يُجَبْ عنها بعد؛ فعلى سبيل المثال؛ ليس من الواضح ما الذي حفَّزَ تخليقَ مثل هذه المناطق أو كيف انتشرت، وتفسّرُ إحدى أشهر النظريات ذلك بالفيروسات القهقرية (الرجعية)، التي تستطيعُ إدخال الـ DNA إلى مَجين المضيف لينتقل من جيل إلى آخر.

يقول Edward Hollox؛ أخصائي في علم الوراثة في جامعة ليسترفي بريطانيا العظمى: “نظريتي المفضلة هي أنَّه في نقطةٍ ما في مسير تطوُّرِ القردة؛ كانَ هناك نشاط قهقريٌّ كبير.” 

وعلى نحوٍ مثيرٍ للفضول؛ فإنَّ مناطقَ النسخ التي كانت فعالة جدًّا في جينومنا قد توقفت أو تباطأت عن قفزاتها السابقة، وعلى الرغم من الدليل على القفزاتِ الكبيرة في أثناء تطوّر القردة العليا؛ فإنَّ العلماءَ لم يجدوا حتى الآن النُّسخَ التي حدثت في ملايين السنين الماضية المسؤولة عنها. وبحث فريق عن هذه المناطق، ووجدوا النُّسَخ الأصغر، والتي يعتقد العلماء أنها خاصة بالبشر ومميزة عن الـ Neanderthals (الإنسان البدائي).

وليست واضحةً حتَّى الآن أهميةُ دورِ مناطق النسخ في تكوين نوعنا، ومن الصعب الحصولُ على نظرية كاملة في تطور القرود العليا، وممّا لا شك فيه أنَّ نظرية مناطق النسخ جزءٌ منها، لكنَّ مقدارَ تأثيرها هو الذي يبقى محطّ سؤال، وتقترح الأبحاث وجودَ عوامل أخرى كالتنظيم الجيني؛ أي في الوقت التي تتفعّل فيه مورثاتٌ معينة، لكن هذا العامل لا يكفي لشرح كل الفروق بين البشر والرئيسيات.

المصدر:

هنا