الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

أنكسمندر ونظريته حول نشأة المادة والعالم الحي

أنكسمندر (611 – 547 ق. م) ، فيلسوف يوناني قديم ينتمي لحقبة فلسفة ما قبل سقراط، وإلى المدرسة الأيونية، وكان أنكسمندر معاصراً لتالس، تلميذاً وخليفة له.

ذُكر أنكسمندر وفلسفته في كتابات أرسطو، الذي صنفه على أنه ينتمي للمدرسة المادية في الفكر التي ينتمي اليها تالس، ولكن على خلاف تالس، فإن أنكسمندر كتب عملاً فلسفياً معنونا بـ”عن الطبيعة"، ولسوء الحظ لم يصلنا عنه هذا العمل أو غيره، وأتت إلينا المعلومات عن فلسفته وعن كتابه هذا من خلال الملخصات التي كتبها الآخرون، وخاصة أرسطو وتيوفراستوس.

آراؤه ونظرياته:

- ينسب لهذا الفيلسوف الكثير من أعاجيب النظريات والأعمال، ويقال إن أنكسمندر هو أول من رسم خريطة للعالم المسكون على صحيفة، وقد كانت أعجوبة في ذلك العصر.

- ينسب له اختراع المزولة الشمسية التي تقيس الوقت بطول ظل عصا مغروسة في الأرض، وقد يكون نقلها عن المصريين أو البابليين، حيث أن الاكتشافات تؤكد أنهم كانوا على دراية بهذه الآلة.

- كما ينسب له القول بفكرة (الأكوان المتعددة) والتي تعني إما كثرة الأكوان المتزامنة مع بعضها البعض في الوجود أو المتعاقبة في وجودها حيث يتلو كل واحد منها الآخر بعد فنائه، وقد تطوّرت البراهين حول إثبات أو دحض هذه النظرية عبر تاريخ الفلسفة والعلم على حد سواء، وتبع ذلك التطوّر انعكاسات أخلاقية فلسفيّة هامّة.

- أما أشهر نظرياته فهي نظريّة التطوّر في العالم الحي التي سبق بها العالم البريطاني "تشارلز دارون" بأكثر من ألفي عام، حيث يرى أن العالم الحي بدأ من الماء، ويرى أنسكمندر أن أصل الإنسان كائنات كانت تعيش في قواقع ضمن الماء، فلما انحسر البحر لجأت هذه القواقع لليابسة ومن ثم تطورت وارتقت من خلال الدافع الغريزي الذي دفعها للملاءمة بينها وبين العالم الخارجي، وسواء أكان هذا التفسير على بساطته من إبداع أنكسمندر أو أنه نقله عن الأساطير السومرية القديمة وخاصة فكرة تقديس الحياة البحرية باعتبارها أصل الحياة، إلّا أنه بلا شك خطوة عظيمة ومبكّرة نحو البحث عن تفسير عقلي لنشأة الحياة على الأرض.

ويقدم برهاناً قوياً على تلك النظرية حول الأصل التطوري للعالم الحي، حيث يقول إن الإنسان لم يكن له أن يوجد دفعة واحدة كإنسان ضعيف عاجز كالطفل الرضيع وإلا لكان قد انقرض، ولكن هناك حيوانات أقوى منه حملت به وهي الأسماك، حتى اشتدت بنيته ومن ثم خرج الى اليابسة قوياً برمائياً ثم تطوّر نحو شكله وهيئته الحالية.

# أفكاره الطبيعية عن أصل العالم المادي وبحثه في مادّة العالم:

بالنسبة لأنكسمندر، فإن هذا العنصر الأول (المبدأ) ليس أياً من العناصر (الأرض، الماء، الهواء، النار)، بل هو الذي يهب هذه العناصر وكل شيء آخر، لأنه لو كانت المادة الأولى محدودة لنفذت في عملية تشكيل العوالم.

و رأى أن المبدأ الأول لا يصح أن يكون متعيّناً، وإلا لم نفهم كيف تنفصل وتنشأ المواد المختلفة عن هذا المبدأ الواحد المتعيّن، على خلاف تالس، يؤكد أنكسمندر أن المبدأ الأول ليس الماء، بل ما سماه (الأبيرون)”apeiron"، والذي يمكن أن يترجم (اللانهائي) أو (اللامتعين) وبذلك يكون أول من قدم هذا الاسم للعنصر البدائي.

يقول أنكسمندر أن هذا العنصر والذي هو أصل العالم ليس ماءً أو أي شيء آخر من العناصر المسماة كذلك، بل مادة مختلفة غير محددة ولا متناهية فهي لا محدودة بمعنيين، لامحدودة في الكم ولا في الكيف، فهي مزيج من مختلف الأضداد (البارد والحار، اليابس والرطب... الخ) ومنها أتى للوجود كل السماوات وكل العوالم التي فيها.

وبتفسير آلي يقوم انكسمندر بتوضيح الآلية التي نشأت بها الأجسام وانفصلت عن هذا اللامتعين، أي نشأة الأجسام السماوية والأرضية، وبهذا هو يبتعد عن النظرة الغائية التي ترى أن المادة تتحوّل بفعل قدرة تمليها عليها قوى غيبية متعالية منفصلة عن المادة، ويقترب من التفسير الآلي الذي يرتكز عليه العلم المعاصر والذي يعني أن المادة بحكم طبيعتها ستؤدي في نهاية المطاف إلى تحوّلاتها الآلية من شكل لآخر .

وعندما تفنى الأشياء تعود إلى "الأبيرون" الذي حصلت منه على وجودها كما تقتضي الضرورة، فأنكسمندر يفسر العالم المادي وحركته تفسيراً آلياً بعيداً عن أي علة فاعلة أو غائية، أي أنه بمجرّد اجتماع وافتراق المتناهيات تحدث العناصر الأخرى وتنحل وتعود لتتشكل وهكذا.

ومن المادة الرطبة والباردة تتشكّل الأرض، بينما المادة الحارة ترتفع لتشكل محيط ناري حول الكرة الأرضية، والهواء نشأ من تبخّر المياه بفعل الحرارة المحيطة بالأرض مما شكّل الغلاف الجوّي (الهواء) حيث أن اليونان كانوا يعتقدون أن الهواء والبخار شيء واحد.

وهناك أغلفة تحيط بالكتل النارية وفي هذه الأغلفة ثقوب ينفذ منها ضوى تلك الهالة النارية فنرى به الكواكب والقمر والنجوم. وعندما يحصل الخسوف والكسوف فهو انسداد لهذه الثقوب، ويرى أنكسمندر أن الأرض ترتكز ليس على الماء كما قال تالس، وهي ليست طافية بل انها معلّقة في مركز الكون الكروي ويدور حولها كل شيء آخر، وهذا الوضع المحوري بالتباعد المتساوي عن كل أطراف الكون هو ما يسبب لها توازنها، وهذه تعدّ (إحدى اولى الإرهاصات التي مهّدت للتفكير في قانون الجاذبية لاحقاً).

في الحلقة القادمة سنتكلّم عن الفيلسوف القائل أن الهواء هو أصل العالم، فكيف برهن ذلك الفيلسوف على تلك الفرضية، تابعونا في الحلقات القادمة للتعرّف أكثر عن الفلسفة اليونانية وفلاسفتها ومختلف نظرياتهم.

(هذه السلسلة تصدرها مجموعة الفلسفة في الباحثون السوريون بإشراف الأستاذ زاهر رفاعية، الباحث في العلوم الإنسانية، والمنسق العلمي لفريق الفلسفة في الباحثون السوريون) وتحت شعار: العلم هو الحل.

المصادر:

1- أرسطو طاليس: كتاب الطبيعة، ترجمة: إسحق بن حنين، تحقيق وتقديم: د. عبد الرحمن بدوي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في جمهورية مصر العربية.

2 - أحمد أمين، زكي نجيب محمود: قصة الفلسفة اليونانية، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1935.

3 - د. عزت قرني: الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون، منشورات جامعة الكويت، 1993.

هنا

مصدر الصورة:

هنا