التاريخ وعلم الآثار > منارات ثقافية

مكتبة قرطبة

من الزهراء، نحيّيكم:

من منّا لم يسمع بأبياتِ ابن زيدون يوجّهها إلى محبوبتِه ولّادة:

إنّي ذكرتُكِ في الزهراءِ مشتاقاً -- والأفقُ طلقٌ ووجهُ الأرضِ قد راقا

إنها الزهراءُ التي بناها خليفةٌ أمويٌّ اسمه عبد الرحمن بن محمد والملقب بالناصر لدين الله، بناها لتكونَ تحفةَ الزمان، وآيةَ الإبداعِ الأولى في المغرب الإسلامي، حيث اتخذها مقراً للخلافةِ الأموية من بعده، لتكون أول مدينةٍ في أوروبا مرصوفةَ الأرضِ مُنارةً من كل النواحي، لقد كانت مدينةَ النورِ وقِبلة العلماءِ والأدباء، وتاجاً للرفاهية تفخرُ به كل الأندلسِ في أحلى حِقَبِها على الإطلاق.

أسّس الخليفة عبد الرحمن الثالث الملقب بالناصر لدين الله (911 – 961 م) هذه المكتبة في مدينة الزهراءِ في قرطبة، حيث ازدهرت المدينة اقتصاياً وسياسياً وثقافياً، الأمرُ الذي عمّ في الأندلس بشكل واسع (ص135، 3).

من هنا من أطلالِ ما تبقى من الزهراء، تبدأ رحلتنا مع مكتبة من أعظم المكتبات في التاريخ الإسلامي، ولم يغالِ المؤرخون حين صنّفوها بأنها تنافس مكتبةَ بيتِ الحكمةِ العباسية في بغداد ومكتبةَ دارِ العلمِ الفاطمية في مصر، وإن كانت تحلّ في الترتيب الثالث خلفهما.

عبد الرحمن الثالث، وولادة المكتبة:

بطل قصتنا اليوم، خليفةٌ حكيم، ذوّاقٌ ومحبٌ للإبداع، وُلّيَ الحكمَ سنة 913م وهو لا يزال في ربيعه الثاني والعشرين، ربّاه جده على العلم والمعرفة واتباع العلماء ومعرفة وفقه السياسة والتاريخ والأنساب، ذلك لأن والده قضى نحبه في صراعٍ مع عمه وقُتلا معاً، ليبقى الخليفة عبد الله بن محمد من دون وليّ عهد، فسعى لتربيته وخصوصاً أن الأندلس كانت تشهد مخاضَ ولادةٍ عسيرةٍ لحقبة جديدة تأتي بعد حقبة مليئة بالفوضى والاضطرابات. (ص 158 – 159، بتصرف 5).

أحوال قرطبة الثقافية قبل وصول الناصر للحكم:

"كانت قرطبة أكثرَ بلادِ الأندلس كتباً، وكان أهلها أشدّ الناسِ اعتناءً بخزائن الكتب"، هذا ما وصف به الدكتور عبد الستار الحلوجي أهلَ قرطبة، فنادراً ما كان يخلو بيتٌ من خزانةِ كتب. (ص47، 4).

لم يتوقف النشاط الفكري في الأندلس عند الفقه واللغة، بل اتجه أبعدَ من ذلك ليشمل مختلفَ نواحيَ العلوم، ويذكر التاريخ أن حلقاتِ العلمِ في الأندلس بقيت تنعقد حتى القرن الثالث عشر (ص157، 7).

دخول قرطبة مضمار السباق:

تحدثنا سابقاً في مقالةِ دار العلم الفاطمية عن التنافس المحموم بين العباسيين ومكتبتِهم بيتَ الحكمة، وبين الفاطميين ومكتبتِهم دارَ العلم، ولكن الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله أبى إلا أن يدخل التنافس بمكتبةٍ تقارع المكتبتين آنفتي الذكر. (ص158، 7).

وكان الناصر يُعرف بعلمه، فقرّب إليه العلماء، وأصبحت قرطبة في عهد الناصر منارةً للعلم تجذبُ إليها الأدباءَ والفنانين (ص201، 5).

يُذكر أن الناصر أرسلَ إلى المشرق عباس بن ناجح ليلتمس بعضَ الكتبِ ويستنسخها من العلوم والآداب، حيث كان يقع اهتمام الخليفة الناصر، فأسّس مكتبةً كبيرة في قصره وخزّن بها ما جمعه من كتبٍ في شتى اللغات (ص122، 7).

اشتُهر عبد الرحمن الناصر بولعِه في العلم وحبِّه للقراءة كما أسلفنا، فبعث في الأمصار طلباً للكتب، وعلى طولِ فترةِ حكمه التي امتدت لخمسين سنةً، إلا أنها كانت فترةً مليئةً بالثوراتِ والتقلباتِ عاشها الخليفة بين حربٍ مع الشمال وأخرى مع الجنوب، وملاحقةٍ للغوغاء في كل البلاد، ولعله لم يستطع أن يحقق حلمَه في بناء دارٍ للحكمة خاصةً بقرطبة، فاكتفى بخزانةٍ كبيرة في قصره لم يحظَ إلا بالفرص القليلة للاطلاع على ما فيها (ص168، 5).

ولكن كان ما بذله طيلة حياته من حروبٍ ما هو إلا توطيدٌ لتحقيق حلمه، ومَن غير الابنِ يحققُ حلمَ أبيه؟

الحَكَم الثاني:

"كان محباً للعلوم، جمّاعاً للكتب في أنواعها بما لم يجمعه أحدٌ من الملوك قبلَه، فأقام للعلم والعلماءِ ساطاناً ونفقاتٍ فيه بضائعه من كل قطر"، هكذا وصف ابن خلدون الحَكَمَ الثاني في مقدمته، ومن كلمات ابن خلدون نفتتح الكلام عن الحكم الثاني ابن عبد الرحمن الناصر الخليفة الأموي (ص50، 4، وأنظر أيضا ص211، 2).

بوفاة الخليفة عبد الرحمن الناصر سنة 961م، صار الأمر إلى وليّ عهده وابن الحكم الثاني، الذي حكم الأندلس في فترة من أكثر الفترات استقراراً (961م – 977م) ، فوطّد له والدُه الأمر، وأخضع كل الثورات والقلاقل، ولم يعد من شيءٍ يعكّر صفوه إلا أمرٌ واحدٌ، وصيةُ والده. (ص123، 7).

ازدهرت المكتبة في عهد ابن الحكم الثاني الذي استفاد من قوة والده وتوفر المال بالإضافة إلى حبّه للعلم والكتب، فدعم المكتبة بالكتب التي جلبها من كل الأقطار (ص135، 3) وجمع الخليفة الحكم الثاني كل ما هو نادر وثمين وشجع العلم والعلماء (ص136، 3).

كانت شهرة المكتبة تعود لسببين، الأول بسبب شهرة مدينة الزهراء التي كانت في ذلك الزمان مدينة عالمية اتسعت ونمت ووصلت إلى مستوى يعجز عنه الوصف من الانفتاح والازدهار، أما الثاني فكان بسبب قوة الحكم وتوفر الأموال والرفاه فضلاً عن ثقافة الخليفة الحكم بن عبد الرحمن الذي لقب لاحقاً بالـ "بالمستنصر" ومحبته للعلم، فأنفق عليها أموالاً طائلة وجلب إليها الكتب من كل قطر (ص210 – 209 بتصرف، 2).

يقول زيهارت دوزي، أحد المؤرخين المشهورين في أوروبا، في وصف الحكم الثاني: "لم يسبق أن تولّى حكم إسبانيا عالمٌ بهذه الدرجة ورغم أن جميع أسلافه كانوا رجالاً مثقفين وأحبوا أن يُغنوا مكتباتهم، فإن أحداً منهم لم يبحث بشغفٍ عن الكتب النادرة الثمينة كما فعل الحكم". (ص210، 2، انظر أيضاً في ص159، 7).

وروى ابن خلدون أن المكتبة كان لها 44 فهرساً، في كلّ منها 50 ورقة، 20 ورقة ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواويين لا غير، وأن الحكم كان يبعث في الكتب إلى الأقطار جالاً من التجار ويسرّب إليهم الأموال لشرائها، حتى جلب منها إلى الأندلس مالم يعهدوه، وجمع الحذاق (أي الضالعين في صناعة النسيج المهرة في الضبط والإجادة في التجليد فأوعى من ذلك كله. (ص50، 4).

وساهمت هذه المكتبة في نشر الثقافة وبصورة خاصة الفلسفة اليونانية والرياضيات والطب والعلوم الطبيعية وغيرها من العلوم (ص136، 3).

من بين الكتب التي اقتناها الخليفة الحكم آنذاك كان كتاب الأغاني لأبو فرج الأصفهاني وأرسل إلى الأصفهاني مبلغ ألف دينار من الذهب العين ثمناً له، وهو مبلغ كبير إذا ما قورن بالقيمة الشرائية له في ذلك الوقت (ص210، 2).

وكان الحكم يستخدم الكثير من هذه الكتب ويقرأ فيها ويدوّن ملاحظاته وتعليقاته على هوامش المخطوطات، مما جعلها ذات أهمية عظيمة في نظر العلماء المتأخرين، كما كانت لهذه المكتبة أثرٌ واسعٌ في نشر الفلسفة اليونانية والرياضيات والعلوم الطبيعية والطب وغيرها من العلوم (ص211، 2).

فصارت قرطبة مركزاً للعلوم والآداب وانتشرت الثقافة وكثر الإنتاج العلمي، وبلغ عدد الكتب 40،000 كتابٍ وُضعت لها فهرسٌ دقيقةٌ وتصانيفُ عديدة، كما ظهر الناسخون الذين يقومون بدور المطابع في عصرنا وظهر المجلّدون للعناية بالمخطوطات وحفظها (ص201، 5).

من بين أشهر روّاد المكتباتِ والذين كانو يعلمون بها ويؤلفون لصالحها: كابن رشد القرطبي وابن مسرة القرطبي وابن سيده صاحب المعجم وعبد الله محمد بن محمد والقاسم بن الدباغ، وأبو الوليد الباجي وابن عبد البر وابن وضاح والمنذر ابن سعيد والقالي صاحب كتاب المعالي والمؤرخ الشهير ابن القوطية والشاعر العظيم محمد بن هانئ الأندلسي (ص201، 5).

ماذا قالوا عن الحكم ومكتبته:

البروفيسور سليم الحسني من جامعة مانشيستير ومؤلف كتاب ألف اختراع واختراع:

"كان في مكتبة قرطبة لزمن حكّامها الأمويين ستمئة ألفِ مجلدٍ وكان الحكم الثاني الذي تولى الأندلس من عام 961م وحتى عام 978م يُعِد صحبةَ الكتابِ أحبُّ إليه من عرشِه". (ص61، 1).

الدكتور ستيبشفيتش في كتابه تاريخ الكتاب:

"يحتل الحكمُ مكانةً خاصةً بين الحكام المتنورين، فجمع في مكتبته الكتبَ النادرةَ التي اشتراها بأثمانٍ غالية، فكان هناك جيشٌ من الخطاطين والمزخرفين والمجلّدين الذين كانوا يعملون لحاجاتِ المكتبة، بينما تمكّن العاملون في المكتبة من وضع فهرسٍ لها في 44 مجلد". (ص160، 7).

لسان الدين بن الخطيب في كتابه أعمال الإعلام من قبل الاحتلام من ملوك الإسلام:

"كان الحكم الثاني عالماً وفقيهاً بالمذاهب، إماماً في معرفة الأنساب، حافظاً للتاريخ جمّاعاً للكتب مميزاً للرجال من كل عالمٍ وجيلٍ وفي كل عصرٍ وأوان، لذلك تهمم به فكان فيه حجة وقوة وأصلا يوقف عليه" (ص125، 7).

نهاية المكتبة

اختلف المؤرخون إلى النتيجة النهائية التي صارت إليها المكتبة ومن هنا نورد لكم الروايات التالية:

يرى الدكتور عبد الستار الحلوجي أن ملوك الطوائف هم من بدّدوا وأتلفوا هذه المكتبة عندما تقسّمت الأندلس في عهدهم إلى 22 دويلة بعد انتهاء فترة حكم الأمويين (ص51، 4).

ويرى الدكتور عبد اللطيف الصوفي أن هذه المكتبة تبدّدت على يد الإسبان بعد أن وقعت مدينة قرطبة في يدهم سنة 1235م (ص212، 2).

وأدلى الدكتور محمد ماهر حمادة دلوه في هذا الموضوع، فيذكر أنه وفي عهد دولة الحاجب المنصور بن أبي عامر أحرق المنصور كتب الفلسفة من المكتبة إرضاءً للفقهاء الذين ادّعوا أنها كتبٌ تخالف الدين، لتكتمل الفاجعة بعد ذلك في القرن الحادي عشر عندما حاصر البربر قرطبة واحتاج حاكمها في ذلك الوقت، ويدعى الحاجب واضح، إلى مالٍ وفيرٍ فباع أكثرَ الكتبِ من المكتبة، وما تبقى منها دمّره البربر ونهبوه بعد اقتحامهم للمدينة بعنوة (ص125، 7).

المصادر والمراجع

ألف اختراع واختراع = 1001 Invention / سليم الحسني .- ط2: طبعة عربية (ط1: اللغة الإنجليزية، 2006).- لندن: مؤسس العلوم والتكنولوجيا، مانشستير: جامعة مانشستر، 2006.- أبو ظبي: أبو ظبي للإعلام ، 2011

لمحات من تاريخ الكتب والمكتبات / عبد اللطيف الصوفي .- دار طلاس للطباعة والترجمة: الجزائر، 1987

من تاريخ الكتب والمكتبات في البلدان العربية / خيال الجواهري .- وزارة الثقافة في لجمهورية العربية السورية: دمشق، 1992

لمحات من تاريخ الكتب والمكتبات / عبد الستار الحلوجي .- دار الثقافة للنشر والتوزيع: القاهرة، 1991

الأندلس: التاريخ المصور/ طارق السويدان.- الكويت: دار الإبداع الفكري، 2006

البداية والنهاية/ إبن كثير، تحقيق: عبد الله التركي.-الرياض: دار عالم الكتاب، 2002 (مج11)

المكتبات في الحضارة العربية الإسلامية / ربحي مصطفى العليان .- عمان: دار الصفاء، 1999

المكتبات في الإسلام / محمد ماهر حمادة .- بيروت: مؤسسة الرسالة، 1981

The Golden Age of Islam\ Maurice Lombard.- New York: Markus Wiener Publishers، 2003

Sea of Faith: Islam and Christianity in the Medieval Mediterranean World\ Stephen O’Shea.- London: Bloomsbury، 2006

A History of Medieval Islam\ John J. Saunders.- London: Routledge، 1978

When Baghdad Ruled the Muslim World: The Rise and Fall of Islam's Greatest Dynasty\ Hugh Kennedy.- Massachusetts: Da Capo Press، 2006